معركة «الأحزاب».. والتحالف القديم المتجدد
تعد غزوة الخندق أو الأحزاب من أخطر المعارك التى خاضها النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين على طريق نشر الإسلام وتبليغ رسالة السماء. معركة الأحزاب جاءت كنتيجة لمعركتين أساسيتين خاضهما المسلمون وانتصروا فيهما، الأولى هى معركة بدر ضد المشركين، والثانية معركة بنى النضير ضد اليهود.
رغم انتصار المشركين على المسلمين فى معركة أُحد، إلا أن كبارهم لم ينسوا ما فعله بهم النبى فى «بدر» وكيف فقدوا العديد من كبار أهل مكة فيها، لذلك لم يكن غريبًا أن يصرخ أبوسفيان بن حرب- قائد المشركين- بعد انتهاء معركة أُحد فى المسلمين: «بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول»، يدعوهم بذلك إلى لقاء ثأرى فوق الأرض التى شهدت هزيمته والمشركين فى «بدر»، وحينما سمع النبى منه ذلك طلب من عمر بن الخطاب أن يجيبه بالموافقة، وعاد المسلمون بعدها إلى المدينة ولملموا جراحهم وشرعوا فى الاستعداد للمعركة الجديدة، معركة «بدر الموعد» كما أطلق عليها المسلمون. ولما اقترب الموعد التقى أبوسفيان نعيم بن مسعود الأشجعى فى مكة فحدّثه فى الأمر، وعبّر له عن رغبته فى عدم الخروج هذا العام لأنه عام جدب، وتأجيل المعركة إلى عام يكون أكثر خصوبة، وقال له إنه يكره أن يخرج محمد ولا يخرج هو فيجترئ المسلمون عليه وعلى أهل مكة، وطلب منه أن يذهب إلى المسلمين ويحاول تخذيلهم عن الخروج.
يحكى «ابن سعد» فى «طبقاته» كيف علق النبى صلى الله عليه وسلم على محاولة نعيم تخذيل المسلمين عن الخروج: «فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والذى نفسى بيده لأخرجن وإن لم يخرج معى أحد، فنصر الله المسلمين وأذهب عنهم الرعب واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة عبدالله بن رواحة، وحمل لواءه على بن أبى طالب، وسار فى المسلمين وهم ألف وخمسمائة وكانت الخيل عشرة أفراس، وخرجوا ببضائع لهم وتجارات، وكانت بدر الصفراء مجتمعًا يجتمع فيه العرب وسوقًا تقوم لهلال ذى القعدة إلى ثمان تخلو منه». وصل المسلمون إلى «بدر الصفراء» وحضروا السوق وباعوا واشتروا وربحوا، ولما وصل خبر خروجهم إلى أبى سفيان حشد جيشًا قوامه ٢٥٠٠ مقاتل وكان على رأسهم، وتحرك بهم نحو «بدر الصفراء»، وبينما كان فى الطريق راجع نفسه من جديد وقال لأتباعه لا بد من العودة، وتأجيل المواجهة إلى عام خصب، ولامه على ذلك «صفوان بن أمية» لومًا شديدًا، وقال له لقد جرأت المسلمين علينا. اشتعل عقل وقلب أبى سفيان بالغضب وهو يسمع هذا الكلام، وخطرت له فكرة إعداد جيش ضخم يضم قبائل الجزيرة العربية وخوض معركة حاسمة مع النبى والمسلمين، ومنذ تلك اللحظة بدأ الترتيب لمعركة الخندق أو الأحزاب.
لم تكن غزوة «بدر الموعد» التى هرب فيها المشركون من المواجهة هى المقدمة الوحيدة لمعركة «الأحزاب»، بل تساند معها غزوة أخرى تمكن فيها النبى، صلى الله عليه وسلم، من هزيمة اليهود وهى غزوة بنى النضير. إنه التحالف القديم المتجدد بين اليهود والمشركين، وصدق الله العظيم إذ يقول: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا». كان النبى قد قرر إجلاء بنى النضير عن أرضهم فساروا إلى جيرانهم- من اليهود- فى خيبر، واتفقوا على تكوين وفد من أشرافهم يتحرك إلى مكة ويبدأ فى تأليب القبائل العربية على النبى والمسلمين، وكان على رأس هذا الوفد حيى بن أخطب النضرى، وسلام بن أبى الحقيق النضرى، بالإضافة إلى آخرين، وكانت خطتهم إبرام اتفاق مع عرب مكة بحيث يهاجمون النبى فى المدينة ويحاصرونها من جميع أنحائها على أن يطعن اليهود النبى والمؤمنين من الخلف «من داخل المدينة». التقى وفد اليهود فى البداية بأشراف قريش وتحدثوا معهم وتعاهدوا على التحالف معهم على قتال النبى، ثم تحركوا إلى «غطفان»، ثم إلى «بنى سليم»، وتوافقوا معهم ومع غيرهم من قبائل العرب على الدخول فى تحالف قتالى ضخم لاستئصال شأفة المسلمين من المدينة. تجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب فكانوا ٤٠٠٠ مقاتل تحت قيادة أبى سفيان بن حرب، ولحق بهم بنو سليم فى ٧٠٠ مقاتل، وخرجت بنو أسد يقودهم طلحة بن خويلد الأسدى، وخرجت فزارة تحت قيادة عيينة بن حصن، وخرجت أشجع فى ٤٠٠ مقاتل، وبنو مرة فى ٤٠٠ مقاتل أيضًا، وفى المجمل بلغ عدد من احتشدوا لقتال النبى فى معركة «الأحزاب» عشرة آلاف مقاتل زحفوا بعدتهم وعتادهم وخيلهم وبعيرهم نحو المدينة.
ولك أن تتخيل الحالة التى كان فيها المسلمون الذين لم يزد عددهم على ثلاثة آلاف مقاتل، ليس لهم من العدد أو العدة والعتاد ما يواجهون به هذه الجحافل. إنه المشهد الرهيب الذى وصفه الخالق العظيم فى قوله تعالى فى سورة الأحزاب: «إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا». الذين جاءوا من فوق المؤمنين هم المشركون من عرب مكة، والذين جاءوا من أسفل هم اليهود الذين انطلقوا يطعنون المسلمين من الخلف. هذا المشهد زلزل المسلمين، واضطربت أبصارهم وهم ينظرون إلى هذه الجحافل، وارتجت قلوبهم من العرب والخوف، وظنوا أنها النهاية، وبدأ بعضهم يتساءل: أين النصر الذى وعدنا الله به ونحن على مقربة من وضع سطر النهاية على يد هذا التحالف الذى يوشك أن يستأصل شأفتنا؟.
يقول تعالى: «هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا وإذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا».. كانت تلك حال المؤمنين الذين اهتزوا وأخذوا يسمعون لأراجيف المنافقين والذين فى قلوبهم مرض.. الوحيد الذى ظل هادئًا مطمئنًا إلى ربه هو النبى صلى الله عليه وسلم.