رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زندقة الأدباء والشعراء

هذه المرة نحن لسنا بصدد زعيم معارضة يتم رميه بتهمة «الزندقة»، والجنوح عن الدين لأسباب سياسية، بل أمام أدباء وشعراء اتهمهم المؤرخون الأقدمون بالزندقة، منهم على سبيل المثال «ابن المقفع» مترجم كتاب «كليلة ودمنة»، وهو كتاب فى السياسة والحكمة التى يتوجب أن يستفيد منها مَن يتصدون لحُكم الناس وإدارة شئونهم. «ابن المقفع» هذا قال عنه «المهدى»: «ما وُجد كتاب زندقة إلا وأصله من ابن المقفع».

من يدقق فى المعلومات التى أوردها «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» فى شأن «ابن المقفع» يجد أنها الرغبة فى التشويه، ثم سرعان ما يكتشف السبب فى ذلك. فحديث المؤرخ عن «ابن المقفع» يبدأ من محاولة تفسير الاسم «المقفع»، فيشير إلى أن أباه سمى بهذا الاسم لأنه كان يبيع «القفاع»، وهى عبارة عن زنبيل من الجريد يصنع بلا آذان، ثم يسارع إلى نفى ذلك ليشير إلى أن أصل تسمية الأب بـ«المقفع» تعود إلى أن الحجاج بن يوسف الثقفى كان قد استعمل أباه على الخراج فخان فعاقبه حتى تقفعت يداه، لذا سمى الابن بهذا الاسم. إنها محاولة واضحة لتشويه الأصل الذى جاء منه «ابن المقفع» باتهامه بالسرقة، وبالتالى فنحن بصدد أب لص وابن زنديق.

لم يتوقف «ابن كثير» وهو يعرض سيرة «ابن المقفع» أمام عطائه الأدبى والفكرى الكبير، وترجماته المهمة التى قدمها عن الفارسية، ويبدو أن تسويقه بعض الأفكار التى اشتملت عليها الثقافة التى جاء منها «الثقافة الفارسية» أغضب بعض المؤرخين عليه، رغم ما فيها من قيمة، ربما رأى بعض المؤرخين أن «ابن المقفع» قد شذ فى أفكاره عن الفهم السائد لبعض الأفكار والمسائل الدينية والعقائدية، لكن ظنى أن تلك ليست العلة فى الاتهام الذى وجه إليه بـ«الزندقة»، لأن المتأمل لسيرة الرجل سيلاحظ أن السياسة تطل من جديد لتصبح السبب المباشر فى رميه بهذه التهمة.

لقد مات «ابن المقفع» قتيلًا على يد الوالى نائب الخليفة على البصرة «سفيان بن معاوية». كلام لطيف يحكيه «ابن كثير» عن العلاقة بين الأديب والوالى، فقد كان الأول كثير السخرية من الثانى، ولا يفوت فرصة دون أن يضحك عليه، ويتفكه على الأنف الكبير الذى يبرز فى وجه الوالى سفيان بن معاوية، وقد كان الأخير يغضب كل الغضب لذلك. لا يذكر «ابن كثير» أى شىء غير هذا، وكأن العلاقة بين الاثنين كانت قائمة على ذلك، وتحكمها معادلة رجل يسخر من رجل، ثم فجأة صدرت الأوامر للوالى بقتل الأديب، والأوامر صدرت من الخليفة العباسى أبى جعفر المنصور. 

يقول «ابن كثير»: «ثم اتفق أن المنصور غضب على ابن المقفع فكتب إلى نائبه سفيان بن معاوية هذا أن يقتله». هكذا «اتفق أن المنصور غضب» وقرر قتل «ابن المقفع» فأرسل إلى نائبه على البصرة أمرًا بذلك. لا يوضح «ابن كثير» أسباب غضب «المنصور» على «ابن المقفع»، وهل امتد لسانه الطويل من الوالى إلى الخليفة فناله بنقد أو سخرية أو غير ذلك؟ لا يحكى لنا المؤرخ الكبير شيئًا، بل يكتفى بأن يصف بالتفصيل الكيفية التى تم بها تقطيع أوصال «ابن المقفع» وإلقاؤه فى النار.

فى كل الأحوال لم تكن تهمة «الزندقة» توجه إلى الأدباء، مثل «ابن المقفع»، فقط، بل امتدت أيضًا إلى الشعراء، بل يمكن القول إنها نالت الشعراء أكثر من غيرهم، مثل «حماد عجرد»، على سبيل المثال، الشاعر الذى يقول عنه «ابن كثير»: «هو حماد بن عمر بن يوسف بن كليب الكوفى، ويقال إنه واسطى مولى بنى سواد. وكان شاعرًا ماجنًا ظريفًا زنديقًا متهمًا على الإسلام. وقد أدرك الدولتين الأموية والعباسية».

لم يكن حماد عجرد أكثر من شاعر يعبر عن روح عصره الذى تميز بالمجون والبحث عن الشعراء الظرفاء والاحتفاء بهم، وكان شعره منطلقًا مثل روحه، وكان ذلك يدفع مؤسسة الفقه فى ذلك العصر إلى رميه بالفسق، ثم طور المؤرخون التهمة فرموه بالزندقة، وأصبح المسكين متهمًا على الإسلام، رغم موهبته الشعرية الكبيرة التى جعلته عابرًا للعصور، ويقول «ابن كثير» إن «حماد عجرد قتل على الزندقة»، ما يعنى أن الرجل دفع حياته ثمنًا لظرفه أو مجونه.

زامل حماد عجرد فى السيرة والمآل الشاعر «بشار بن برد»، يقول عنه «ابن كثير»: «بشار بن برد أبومعاذ الشاعر مولى عقيل ولد أعمى، وقال الشعر وهو دون عشر سنين، وله التشبيهات التى لم يهتد إليها البصراء، وقد أثنى عليه الأصمعى والجاحظ وأبوتمام وأبوعبيدة».

بالطبع لم يكن بشار شاعرًا عاديًا فى عصره، أو فى غير عصره، بل كان شاعرًا ذا وزن لدى القراء والنقاد، امتاز بسخاء الإنتاج، حيث يشير «ابن كثير» إلى أن له «ثلاثة عشر ألف بيت من الشعر». «بشار» المسكين كان ضحية للقرب من الخلفاء والأمراء وما يعترى مزاجهم من تقلبات، فقد ظل يمدح «المهدى»- الخليفة العباسى- حتى وشى إليه الوزير أنه هجاه وقذفه، ولم يكتف بذلك، بل رماه أيضًا بتهمة «الزندقة»، ودلل على ذلك بأن «بشار» ممن يقولون بتفضيل النار على التراب، وعذر إبليس فى عدم السجود لآدم، وأنه أنشد: «الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانت النار»، والأبيات فى تقديرى لا تحتمل التأويل الذى خلص إليه الوزير، واتُهم «بشار» بناءً عليه بالزندقة، لكنها الأمزجة المتقلبة للخلفاء والأمراء.

أمر الخليفة «المهدى» بضرب الشاعر بشار بن برد فضرب حتى مات، ويقال إنه غرق ثم نقل إلى البصرة، وكان عمره بضعًا وسبعين سنة، وشاء الله أن يدفن فى البصرة إلى جوار حماد عجرد.

مات الرجل الذى قال: «يا قوم أذنى لبعض الحى عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانًا».. ذلك الشطر الذى جرى من الناس مجرى المثل، وعبر كل العصور حتى وصل إلينا ليتردد على ألسنة الناس حتى اليوم».