رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقام الصحابة.. والاتهام على الإسلام

أربك «يزيد بن معاوية» الناس فى عصره، ويكاد يكون أداؤه هو السر الأكبر فى إرباكهم. ففى أيامه كان الخليفة يحكم باسم الدين، ولقبه «أمير المؤمنين»، وبالتالى يُعذر الناس فى الخلط بين أفعاله السياسية ومنسوب إيمانه «من وجهة نظرهم بالطبع». كان يزيد «فاسقًا»، تلك مقولة يُجمع عليها أعداؤه، كما يؤكد عليها أصدقاؤه. يقول «ابن كثير»: «ولما خرج أهل المدينة عن طاعته وخلعوه وولوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة لم يذكروا عنه، وهم أشد الناس عداوة له، إلا ما ذكروه عنه من شرب الخمر وإتيانه بعض القاذورات، لم يتهموه بزندقة كما يقذفه بذلك بعض الروافض، بل قد كان فاسقًا، والفاسق لا يجوز خلعه لأجل ما يثور بسبب ذلك من الفتنة ووقوع الهرج كما وقع زمن الحرة».

يريد «ابن كثير» التأكيد على أن أهل المدينة لم يتهموا «يزيدًا» بـ«الزندقة» بل بـ«الفسق»، وذهب إلى أن الفاسق لا يجوز خلعه، بسبب الفتنة التى تترتب على ذلك، وهى وجهة نظر جديرة بالالتفات، لكن كان الأجدر بـ«ابن كثير» التأكيد على أن الفسق فى حق الله بترك الصلاة أو شرب الخمر موكول إلى الله، وهو لا يستوجب الخروج على الحاكم، لكن الفسق فى حق العباد مسألة أخرى. لقد أراد «ابن كثير» من جديد التغطية على أمر سياسى بغطاء دينى، وانتهج نظرية «لوم الضحية» فى تحليل ما حدث فى «الحرة»، فلام أهل المدينة على الثورة ضد «يزيد» بسبب ما ترتب على ذلك من قتل ونهب واستباحة.

لعبة أخرى استدعاها «ابن كثير» فى سياق الدفاع عن «يزيد» ودفع تهمة «الزندقة» عنه، تتمثل فى المفاجأة التى تحققت له، حين علم أن عبيد الله بن زياد «ابن مرجانة» قتل الحسين، رضى الله عنه. يقول «ابن كثير» إن يزيد كان يردد: «لعن الله ابن مرجانة فإنه أحرجه واضطره- يقصد الحسين- وقد كان سأله أن يخلى سبيله، أو يأتينى، أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفاه الله، فلم يفعل بل أبى عليه وقتله، فبغضنى بقتله إلى المسلمين، وزرع لى فى قلوبهم العداوة، فأبغضنى البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلى حسينًا، مالى ولابن مرجانة قبحه الله وغضب عليه».

إنها اللعبة القديمة المتجددة للحكام، والتى تلخصها عبارة: «الحاكم لم يكن يعلم بما يصنعه رجاله». فالحاكم «يزيد» كان آخر من يعلم بما فعله «ابن مرجانة» بالحسين، ولو كان لـ«يزيد» من الأمر شىء فى هذا الموقف لما رضى بقتل «الحسين»!. هذا الكلام مضحك بالطبع لأن «ابن مرجانة» كان يتحرك بأوامر من «يزيد»، ولا يستطيع أن يخالف ما أملى عليه من جانب الخليفة، وإلا تعرض للعقاب الشديد، ولم نقرأ فى أى من الكتب التى أرّخت لهذه الفترة أن «يزيدًا» حاسب «ابن زياد» على ما فعل. كما أن كلام «ابن كثير» عن استقبال «يزيد» سيدات أهل البيت فى قصره بدمشق وعطفه عليهن وتركه لهن يندبن الحسين، يغفل أو يتغافل عن شلال التجاوزات ضدهن قبل هذه الوقائع.

فى كل الأحوال، ورغم اجتهاد «ابن كثير» فى نفى تهمة «الزندقة» عن يزيد بن معاوية، والجهد الذى بذله فى «التعييب» على من اتهمه بذلك، ورغم اعترافه ببعض جوانب «فسقه» بمستوييه الدينى والدنيوى، إلا أنه استخدم تهمة «الزندقة» فى نعت من يتجرأ على النقد أو التعليق على أداء أى من صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. يقول «ابن كثير»: «وقال الميمونى، قال لى أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن إذا رأيت رجلًا يذكر أحدًا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام، وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبدالله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضى؟ فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدًا من الصحابة إلا وله داخلة سوء، وقال ابن مبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: ما رأيت عمر بن عبدالعزيز ضرب إنسانًا قط إلا إنسانًا شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطًا. وقال بعض السلف: بينما أنا على جبل الشام إذ سمعت هاتفًا يقول: من أبغض الصدّيق فذاك زنديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنم زمرًا، ومن أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمن، ومن أبغض عليًا فذاك خصمه النبى، ومن أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنم الحامية، يرمى به فى الحامية الهاوية».

كلام «ابن كثير» واضح فى اتهام من ذكر أحدًا من الصحابة بسوء «على الإسلام»، أى اتهامه بالزندقة، ومقام صحابة النبى، صلى الله عليه وسلم، عالٍ ومعلوم، ليس فى ذلك شك، ولكن ما معنى أن يدعو «ابن كثير» إلى اتهام من يذكر أيًا منهم بسوء على الإسلام دون أن يحدد لنا معنى «السوء»؟ وكيف يحصن الأداء الدنيوى لأى من الصحابة، بمن فى ذلك الراشدون الأربعة، رضى الله عنهم، وقد كانوا- هم أنفسهم- ينتقدون أداء بعضهم البعض؟ لقد انتقد عمر أداء أبى بكر فى حرب الردة فى البداية، وانتقد أبوبكر أداء خالد بن الوليد فى القتال، وانتقدت امرأة من عوام المسلمين رأى عمر بن الخطاب، وهدد رجل آخر من العوام بتقويم عمر بالسيف إذا اعوج، وانتقد بعض الصحابة أداء عثمان، ووقف الصحابيان طلحة والزبير ضد على بن أبى طالب. فكيف والحال كذلك أن يصادر «ابن كثير» على انتقاد الأداء الدنيوى للصحابة الذين تولوا أمر المسلمين؟ وكيف يسمى هذا انتقاصًا منهم؟ إن من ينقد هنا يتوجه إلى أفعال دنيوية قد يصيب أو يخطئ صاحبها التقدير، ولا يتوجه إلى أمر الدين الذى يعلم كل مسلم البلاء الكبير الذى أبلاه صحابة النبى فى الدفاع عنه.

وللأسف الشديد فقد انسحبت مسألة الحصانة التى منحها «ابن كثير» وغيره من المؤرخين للصحابة، رضوان الله عليهم، على الأجيال التالية لهم، فلم تعد الحصانة لمعاوية، رغم تحفظ الكثيرين على أدائه وأسلوبه فى إدارة الصراعات السياسية، بل بات «يزيد» ولده محصنًا أيضًا، وبمرور الوقت بات كل حاكم محصنًا، فإذا وقع فى خطأ شنيع قيل، كما ردد «ابن كثير» حول «يزيد»، أنه لم يكن يعلم وأن رجاله فعلوا الفعل الشنيع من وراء ظهره، أما هو فبرىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وإذا واصل الناقد الانتقاد فلا بد من اتهامه فى مثل هذه الأحوال على «الإسلام»!.