رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فلسطين لأهلها... ومصر للمصريين

رغم كونى رجل إذاعة فى المقام الأول، إلا أن هذا لا ينفى قناعتى بأن صورة صادقة واحدة، تغنى وفى أحيان كثيرة عن آلاف الكلمات. ذلك ما أكده مشهد عودة سكان قطاع غزة إلى ديارهم صباح الإثنين بعد أكثر من عام من النزوح القسرى هربًا بأطفالهم من آلة الحرب العدوانية التى توقفت مؤخرًا.
أجل توقفت نيران المدفعية وهدأت حركة جرافات الهدم الهمجى، لكنها خلفت دمارًا لا يتصوره بشر ولا يتخيله ضمير إنسان. فى اعتقادى أن الوقت قد حان الآن لتبدأ الأقلام والميكروفونات فى توثيق جرائم الحرب العدوانية التى شنها جيش الاحتلال ضد شعب أعزل، كان كل ذنبه إصراره على مقاومة المحتل والسعى لتحرير ترابه الوطنى.
فى زحف مواطنى غزة نحو بيوتهم- وإن كانت أطلالًا- رسالة بليغة لا يفهمها الكاوبوى. إذ يقول المواطن الفلسطينى بلسان الحال لا المقال:
هذه أرضى أنا، وأبى ضحى هنا. فهل يفهم المحتل ومَن يدعمونه فحوى هذه الرسالة ؟ بالطبع لا، فكلاهما لم يكن له من قبل بيت ولد فيه وصنع فيه أحلامه ولم يترك هناك ذكرياته. لم يحمل أحدهم مفتاح بيت أبيه ولم يتوارثه جيلًا بعد جيل ليظل على العهد، ولا تنسيه مرارة الغربة وقسوة الاحتلال حلم العودة إلى الديار وإن لم يروها بأعينهم يومًا، لكن حكايات الآباء رسمتها فى مخيلتهم ركنًا ركنًا، بل حجر حجر.
ثم كانت أسخف نكتة سمعناها منذ زمن بعيد، لقد كانت دعوة أحدهم بأن يتم تدبير أراضٍ فى الأردن وفى سيناء للمشردين الفلسطينيين بحجة عملية إعادة الإعمار نكتة سخيفة، لن يفهمها أو يضحك حين يسمعها إلا الأحرار من أصحاب الأرض وأهل الحضارات.
كان من حق كثيرين من أهلنا أن يبدوا قلقهم حين تتجه أعين أهل الشر بشره ونهم شديدين صوب أراضينا، ولكنه القلق المبرر وإن كان مبالغًا فيه. إذ ليس لمصرى سواء كان فى موقع المسئولية أو حتى إن كان مواطنًا عاديًا- يدبر بالكاد قوت أولاده يومًا بيوم- أن يقبل بالتفريط فى شبر واحد من قطعة أرض بور فى أقصى قطعة أرض من صحراء الوطن.
هذا عن المصريين، أما فيما يخص أهلنا فى فلسطين فموقفهم تاريخى وواضح للجميع، أكدته جحافل العائدين التى تابعناها اليوم وهى تعود إلى أطلال بيوتها لتنصب فوقها خيام الإيواء، وسط أجواء شتوية قارسة البرودة. ورغم كل المآسى التى عاشها أهل غزة ويحكون عنها قصصًا تدمى القلوب بمثل ما تدمع العيون، من تقتيل وتشريد وتجويع وحرمان من المأكل والمشرب، إلا أن أيًا منهم لم تغب الابتسامة عن محياه. ولك أن تتساءل مثلى: ما الذى يضحك هؤلاء وسط كل هذه المأساة التى يعجز ملوك التراجيديا عن تشخيصها؟ وبعد تفكير فسرت الأمر بأنها ابتسامة الثقة بالنصر، واليقين بأن الله سيكتب لهم العوض عن كل ما عانوا وفقدوا، ويبقى يقينهم الراسخ الذى نقلوه لنا بثباتهم، أن نصر الله قريب.