«بابك الخرمى».. وطريق «الخراسانى»
ظهر أمر «بابك الخرمى» عام ٢٠١ هجرية، وذلك فى ظل اضطرابات عظيمة شهدتها العديد من المدن الفارسية المسلمة، مثل خراسان والرى وأصبهان، حيث أصابت أهلها مجاعة شديدة وغلا الطعام جدًا، كما يقرر «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»، ومؤكد أن أداء بنى العباس كان سببًا مباشرًا فى هذه الأوضاع التى عانى منها الناس أشد المعاناة، بسبب إهمالهم لهذه الولايات.
فى ظل هذه الأجواء الغاضبة تحرك «بابك الخرمى» وأخذ يدعو إلى مناوأة العباسيين والتمرد عليهم، وتابعه على ذلك خلق كثير، يقول «ابن كثير»: «واتبعه طوائف من السفلة والجهلة». نظرة «ابن كثير» القائمة على تحقير المعارضين كانت جزءًا من نظرة شبيهة أوسع تنظرها المؤسسة الرسمية، التى ينتمى إليها المؤرخ، إلى هؤلاء البشر.
وتتأكد «النظرة التحقيرية» لـ«ابن كثير» حين تتأمل الطريقة التى يصف بها أصل «بابك الخرمى» بقوله: «وقد كان أصل بابك من جارية زرية الشكل جدًا، فآل به الحال إلى ما آل به إليه، ثم أراح الله المسلمين من شره بعدما افتتن به خلق كثير وجم غفير من العوام الطغام». إنها محاولة واضحة للتشويه، بالتأكيد على أن «بابك» ابن جارية وضيعة الشأن قبيحة المنظر وقد ورث عنها الابن ذلك، أما أتباعه «الخلق الكثير والجم الغفير» فهم من أراذل الناس «الطغام». ورغم الهجوم الذى شنّه «ابن كثير» على «بابك الخرمى» إلا أن يده كانت أخف من يد «ابن الأثير»، الذى يذكر فى «الكامل فى التاريخ»: «تحرك بابك الخرمى فى الجاويدانية، أصحاب جاويدان بن سهل، صاحب البذ (البذ مدينة فارسية)، وأخذ فى العبث والفساد، ومعنى خُرم فرج، والرجل منهم (من أتباع بابك) ينكح أمه، وأخته، وابنته، ولهذا يسمونه دين الفرج، ويعتقدون مذهب التناسخ، وأن الأرواح تنتقل من حيوان إلى غيره».
يقدم «ابن الأثير» بابك الخرمى كرجل يدعو إلى الإباحية والتهتك من ناحية، وإلى اعتماد مذهب تناسخ الأرواح من ناحية أخرى، والإباحية عنده لا تتوقف عند حد استخدام المرأة على المشاع، بل إنه يبيح ما حرمه الله تعالى، فيسمح لأتباعه بنكاح أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم. ويتوسع «ابن الجوزى» أكثر فى وصف موضوع الإباحية التى تورط فيها بابك وأتباعه، وينقل عنه «ابن كثير» قوله: «وقد بقى من البابكية جماعة يقال إنهم يجتمعون فى كل سنة ليلة هم ونساؤهم، ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء، فمن وقعت يده فى امرأة حلت له ويقولون هذا اصطياد مباح، لعنهم الله»، نحن هنا أمام حفلات إباحية جماعية كانت تنظم منذ ما يزيد على ١٢ قرنًا من الزمان. أما مسألة التناسخ فلا تتوقف عند انتقال الروح من إنسان إلى آخر، بل تمتد إلى الحيوان حيث تنتقل من حيوان إلى غيره وهكذا.
التهمة الأكثر شهرة وتكرارًا على سطور التاريخ للبابكية إذن هى الزندقة، والجوهر الشعبى للترويج لها تمثل فى الأحاديث عن موضوع الإباحية، وكيف يبيحون نساء بعضهم البعض على المشاع، وقد بلغ الأمر بالبعض إلى حد الحديث عن «البابكية» كأقدم جماعة شيوعية عرفها المسلمون، وربما العالم، وهو أمر يثير السخرية. ويتسرب الشك إلى هذا الكلام عندما نتذكر أن الزندقة كتهمة دينية كانت واحدة من التهم الجاهزة التى تُلقى فى وجه المعارضين لمراكز الحكم، والتاريخ يقول إن «البابكية» كانوا من أشد معارضى الخلفاء العباسيين، وأن زعيمهم «بابك» دوّخ العديد من خلفاء بنى العباس.
الأخطر فى حديث المؤرخين عن «البابكية» هو إشارتهم إلى «دين الخرمية» الذى اعتنقه أتباعها، ولا تكاد تظفر لديهم بأى تفاصيل عن هذا الدين الذى اتهموا «بابك الخرمى» بالترويج له، واتهموه بناءً على ذلك بالزندقة. البعض يقول إن «الخرمية» تعود بجذورها إلى المزدكية، وهى إحدى الديانات الفارسية، ويقول البعض إنها سُميت بالخرمية بسبب طابعها الإباحى الباحث عن العلاقة بالمرأة، كما ذهب «ابن الأثير»، لكن هناك من يرى أن تسمية الخرمية تعود إلى القرية التى ولد ونشأ فيها «بابك»، الزعيم الأبرز لهذه الديانة، وهى قرية «خرمة»، وتقع بالقرب من أردبيل، ويحتار المحلل أمام هذا الاضطراب الذى وقع فيه المؤرخون حين ينسبون الديانة الخرمية إلى «بابك»، وأنها اكتسبت صفتها من القرية التى ولد فيها، وحديثهم عن أن الخرمية كديانة كانت موجودة، قبل بابك، وكان يقودها «جاويدان» كما يذهب «ابن كثير». وجاويدان هذا يعد أستاذ «بابك الخرمى»، فقد اشتراه من أمه، واصطحبه معه، ويقول المؤرخون إنه علمه مبادئ الديانة الخرمية، وجعله وريثه فى قيادة المؤمنين بها، ولم يكتف «بابك» بذلك، إذ ورث أيضًا زوجة جاويدان بعد وفاته، وأصبح يبشر بالخرمية فى كل اتجاه، وتبحث بعد ذلك عن مبادئ هذه الديانة، فلا تجد إلا مبدأين الأول هو الإباحية فى العلاقة بالنساء، والثانى هو التناسخ، وأحيانًا ما يضيف بعض المؤرخين مبدأ الرجعة إلى معتقدات «الخرمية».
الظهور الأكبر للخرمية كان ظهورًا سياسيًا، فقد حارب «بابك» الدولة العباسية كثيرًا، وحقق عليها عدة انتصارات، ولم يتمكن خلفاء بنى العباس من هزيمته إلا بعد سنين طويلة من القتال، كانت دعوته قد انتشرت فى كل الاتجاهات، داخل مدن فارس وخارجها، أما مسألة الدين كمنظومة فلا تبدو واضحة المعالم عند الحديث عن الخرمية، فالمؤرخون الذين قالوا إن الخرمية دين متفرد لم يشيروا إلى عبادات أو طقوس كان يؤديها المؤمنون بالخرمية، سوى طقس الإباحية الجماعية، ورغم كثرة حروب «بابك» ضد العباسيين، لم تكن هناك أى إشارات إلى شعارات دينية كانت تُرفع فى المعارك.
ومن الملفت أن «بابك» ولد مسلمًا ومن أسرة مسلمة، وأخاه اسمه «عبدالله»، وتشير بعض المصادر إلى أنه من نسل فاطمة بنت أبى مسلم الخراسانى، الذى قتله العباسيون غيلة، خلال فترة خلافة أبى جعفر المنصور، رغم البلاء الكبير الذى أبلاه فى الدعوة لبنى العباس، والدور الذى لعبه فى التمكين لهم فى مدن عديدة، حتى استطاعوا تأسيس دولتهم الجديدة على أنقاض الدولة الأموية. كأن ثأرًا تاريخيًا كان بين «بابك» والعباسيين، أراد فيه الأول أن يثأر من بنى العباس، بسبب قتلهم جده.