غاب القمر.. واندلع التمرد
كانت سنة ٢٥٧ هجرية سنة فاصلة فى تاريخ الصراع بين على بن محمد «صاحب الزنج» والخليفة العباسى «المعتمد على الله». فقد قرر صاحب الزنج دخول البصرة والاستيلاء عليها، ونشبت معركة ضارية بين قوات الخليفة التى يقودها «سعيد الحاجب» وصاحب الزنج وأتباعه، انتصرت فيها قوات الخليفة فى البداية، ولكن سرعان ما كر عليهم على بن محمد بقواته فتمكن من المشهد، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، بمن فى ذلك قائدهم «سعيد»، ونجح فى النهاية فى دخول البصرة.
يرسم «ابن كثير» فى البداية والنهاية مشهدًا شديد الإثارة للحال فى البصرة بعد دخول صاحب الزنج وأتباعه إليها، يقول فيه: «وفى ليلة الرابع عشر من شوال من هذه السنة- ٢٥٧ هجرية- كسف القمر وغاب أكثره، وفى صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجى إلى البصرة قهرًا فقتل من أهلها خلقًا وهرب نائبها ومن معه، وأحرق الزنج جامع البصرة ودورًا كثيرة ونهبوها، ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبى أحد أصحاب الزنجى الخارجى، مَن أراد الأمان فليحضر، فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة، فرأى أنه قد أصاب فرصة فغدر بهم وأمر بقتلهم، فلم يفلت منهم إلا القليل، كانت الزنج تحيط بجماعة من أهل البصرة، ثم يقول بعضهم لبعض إشارة متفقًا عليها فيحملون على الناس بالسيوف، فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله الله من أولئك المقتولين، وضجيجهم عند القتل، أى صراخ الزنج وضحكهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهكذا كانوا يفعلون فى كل محال البصرة فى عدة أيام نحسات، وهرب الناس منهم كل مهرب وحرقوا الكلأ من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما وجدت من شىء، من إنسان أو بهيمة أو آثار أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد الجامع، وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الأعيان والأدباء والفضلاء والمحدثين».
نحن أمام مشهد درامى بامتياز يتوارى فيه نور القمر ليلًا، وتكتسى مدينة البصرة بالظلام، وحين يتنفس الصبح وتشرق أنواره يجد أهل البصرة الزنج وصاحب الزنج فوق رءوسهم يعملون فيهم السيوف، يقتلون ويسبون وينهبون الأموال، ويحرقون المساجد- مع أنهم مسلمون- وينادى قائدهم فى الناس حتى يجتمعوا إليه، فيجدها فرصة جيدة للقتل الجماعى، وينسى «ابن كثير» ما سبق وحكاه من أن صاحب الزنج وأتباعه دأبوا على عدم التعرض للناس ولأموال الناس أو إيذاء أحد منهم، وأن قوتهم كانت توجه دائمًا إلى السلطان وأموال السلطان. ورسم المشهد بهذه الطريقة يمثل أسلوبًا معتادًا لدى «ابن كثير» وغيره من المؤرخين فى وصف أى شخص يتمرد على السلطان أو الخليفة، حتى ولو كان أتباعه يعدون بعشرات الألوف من البشر، كما حدث مع على بن محمد «صاحب الزنج». إنها المحاولة المستمرة لتشويه المتمردين بكل الطرق الممكنة، فهى لا تتوقف عند حد وصف المتمرد وأتباعه بالسفاحين، بل تمتد إلى وصم زعيم المتمردين بادعاء النبوة، ومن المضحك أن تجد «ابن كثير» يذكر أن صاحب الزنج كان يقول: «لقد عرضت علىّ النبوة فخفت ألا أقوم بأعبائها فلم أقبلها»!
بمرور الوقت تعقد المشهد أكثر، وأخذت دعوة صاحب الزنج تنتشر بين المستضعفين كما تنتشر النار فى الهشيم. يقول طه حسين فى كتابه «ألوان»: «انتشرت الدعوة بين الرقيق فتكاثفوا وضخم عددهم، وقلق السادة فأرسلوا إليه يفاوضونه يخوفونه غدر هؤلاء السود وفرارهم ويعرضون عليه خمسة دنانير عن كل واحد منهم، فلا يحفل بشىء من ذلك ولا يلتفت إليه، وإنما يمضى فى نشر دعوته وتحرير العبيد السود، وتأليب الأحرار من الفقراء والبائسين، وإذا هو صاحب جيش ضخم يهتم له السلطان فيرسل الحملة إثر الحملة، وهو ينتصر عليها».
أحدث صاحب الزنج انقلابًا خطيرًا فى المجتمع، فاندفع يحرر العبيد والمستضعفين من الأحرار، ويمكِّنهم من رقاب سادتهم، من رجال ونساء، فصار عبيد الأمس أسيادًا، وصار السادة عبيدًا، وبدأ من كانوا يشكون الظلم بالأمس يمارسونه اليوم. فأوضاع البشر يمكن أن تتغير، فيصبح العبد سيدًا، ويصبح السيد عبدًا، لكن العلاقة بين الطرفين تظل كما هى، لا تتغير أبدًا، وذلك ما حدث مع الناس حين أخذ صاحب الزنج يزحف من مدينة إلى أخرى، وانتهى به الأمر إلى إنشاء العديد من المدن التى تحصن فيها هو وأتباعه، كان أشهرها مدينة «المنيعة»، وكانت اسمًا على مسمى، وبدأ الخليفة «المعتمد» يشعر بأن عرشه يتزلزل، فلجأ إلى أخيه أبوأحمد الموفق، ووضع تحت يده جيشًا ضخمًا دخل فى مواجهات ضارية مع جيش صاحب الزنج، كان النصر فيها للأخير، وبدأ أهل بغداد يستعدون ليوم قد يدخل فيه صاحب الزنج ومن معه من السودان إليها ليسقط ملك بنى العباس، وأن يفعلوا بهم الأفعال التى حكى المؤرخون أنهم أتوها فى المدن التى استولوا عليها. وأمام هذا الموقف المعقد يحكى طه حسين أن الخليفة المعتمد قرر إطلاق يد أخيه الموفق فى أموال الدولة يدبرها كما يشاء وينفق منها كما يشاء، وأطلق يده فى جيوش الدولة أيضًا يوجهها حيث يشاء ويكلفها من الأمر ما يشاء، ونهض الموفق لهذه الحرب مصممًا هذه المرة على ألا يعود حتى يمحق الفتنة.