تهجير أهل غزة.. هل يصبح ثمنًا لإيقاف الحرب فى القطاع؟
قلت فى مقال سابق: «ضع الأجزاء المتناثرة إلى جانب بعضها البعض، حتى ترى الصورة واضحة، ولا تمرر على عقلك أشياء قد تبدو فى ظاهرها سطحية أو جاءت عفوية، وهى فى حقيقتها خطيرة، وتحمل فى ثناياها تدميرًا مُتعمدًا ومقصودًا لذاته».
خلال جلسة حوار مع الصحفيين على متن طائرته الرئاسية، عند عودته من جولة فى لوس أنجلوس المنكوبة، قال الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، إن خطته تهدف إلى «تنظيف» المنطقة وإنشاء «صفحة بيضاء»، بعد الدمار الهائل الذى أصاب قطاع غزة نتيجة الحرب.. وكشف عن أنه أجرى مكالمة مع الملك عبدالله الثانى، ملك الأردن، وأعرب عن رغبته فى أن يقوم الأردن بقبول المزيد من اللاجئين الفلسطينيين، وقال إنه سيناقش أيضًا مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى اتصال هاتفى، إمكانية أن تستقبل مصر سكان غزة.. إنه يتحدث عما يصل إلى مليون ونصف المليون من اللاجئين الفلسطينيين، يرى أن الوضع فى غزة «فوضوى» و«مدمر»، وأن إعادة توطين الفلسطينيين فى دول عربية أخرى، يمكن أن يكون «مؤقتًا أو طويل الأمد»، لأن «غزة الآن فعلًا مدمرة.. تم تدمير كل شىء تقريبًا، والناس يموتون هناك.. أُفضل أن نتعاون مع الدول العربية لبناء مساكن فى مكان آخر، حيث يمكنهم العيش بسلام»!!.. وبرر ترامب طلبه من ملك الأردن، قائلًا: «أود أن تأخذوا المزيد، لأننى أرى غزة الآن، فى فوضى حقيقية».
ورغم محاولة ترامب صبغ صورة إنسانية على مقترحه، فإنه سبق أن كشف عن رؤيته للقطاع، عندما قال بعد تنصيبه: «غزة يجب أن يعاد بناؤها بطريقة مختلفة.. غزة مكان مثير.. إنه موقع رائع على البحر.. أفضل الطقس، كل شىء جيد.. يمكن فعل أشياء جميلة هناك، إنها مثيرة للاهتمام»!!.. وقد سبق أن نظر لإسرائيل على الخريطة وعلق بأنها صغيرة المساحة، ولا بد أن تتوسع!!.. ولا ندرى، بأى شىء أو وعد، أقنع ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب للشرق الأوسط، رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، بالموافقة على وقف إطلاق النار فى غزة، وهو الاتفاق الذى طالما وقف نتنياهو فى طريق تحقيقه، وما زال يفتعل الأزمات حتى لا تكتمل مراحله الثلاث.
فى وقت سابق، أعلن ترامب عن أن عددًا كبيرًا من الأشياء التى طلبتها إسرائيل من الولايات المتحدة، يجرى تسليمها حاليًا، ردًا على تقارير صحفية أفادت بأن إدارته أفرجت عن شحنة قنابل زنة ألفى رطل، وكتب على منصته للتواصل الاجتماعى: «الكثير من الأشياء التى كانت إسرائيل قد طلبتها ودفعت ثمنها، ولكن لم يُرسلها الرئيس السابق جو بايدن، باتت الآن فى طريقها إلى التسليم».. دون أن يُشير إلى أن إدارة الرئيس الديمقراطى السابق، جو بايدن، علّقت العام الماضى تسليم إسرائيل ألف وثمانمائة قنبلة زنة ألفى رطل، فى الوقت الذى كان الجيش الإسرائيلى يخطط فيه لشن هجوم واسع النطاق على رفح جنوب قطاع غزة؛ المكان الذى لجأ إليه ١٫٤ مليون فلسطينى بسبب القصف والحرب.. وكان بايدن قد حذّر من أن استخدام هذا النوع من القنابل فى مناطق كهذه، سيتسبب فى «مأساة إنسانية كبيرة».. وفى مقال نُشر على موقع أكسيوس، كتب الصحفى الإسرائيلى المتخصص فى الأمن القومى، باراك رافيد، أن ترامب أمر وزارة الدفاع برفع الحظر عن إرسال القنابل لإسرائيل، وهذا النوع من القنابل الكبيرة التى يجرى إسقاطها من الجو، دقيق وشديد التدمير، ويستخدم بشكل عام لإحداث أضرار واسعة النطاق، ضد أهداف مثل المنشآت العسكرية ومراكز القيادة والبنية التحتية.. وخلال فترة ولايته الرئاسية الأولى، كثيرًا ما تباهى ترامب بأن إسرائيل، «لم يكن لديها صديق أفضل منه فى البيت الأبيض»، وهو شعور كثيرًا ما كرر رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، الحديث عنه.
●●●
رؤية ترامب، أو خطته، أثارت ردود أفعال عنيفة.. فقد أدانها الفلسطينيون والأردن ومصر، ووصفوها بأنها غير مقبولة وتُشكل «خطًا أحمر»، فى حين رفض سيناتور جمهورى كبير فى الولايات المتحدة الفكرة، ووصفها بأنها غير عملية، بل أدانها.. إذ أكدت الرئاسة الفلسطينية أن الشعب الفلسطينى «لن يتخلى أبدًا عن أرضه ومقدساته، ولن نسمح بتكرار نكبتى 1948 و1967، وسيبقى شعبنا صامدًا ولن يترك وطنه».. وأشادت فلسطين بمصر والأردن لرفضهما بشكل مماثل التوطين القسرى للشعب الفلسطينى مرة أخرى.. وقال رئيس دائرة العلاقات الخارجية لحركة حماس، باسم نعيم، إن «الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة عانى من الموت والدمار على مدى خمسة عشر شهرًا، فى واحدة من أكبر جرائم الإنسانية فى القرن الحادى والعشرين، لمجرد البقاء على أرضه ووطنه.. وبالتالى، لن يقبل بأى مقترحات أو حلول، حتى لو بدت حسنة النية تحت ستار إعادة الإعمار»، كما اقترح الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، «شعبنا أحبط كل مخططات التهجير والوطن البديل على مدى عقود، ويرفض مثل هذه المشاريع أيضًا.. ونؤكد أن شعبنا قادر على إعادة إعمار غزة بشكل أفضل من ذى قبل، شريطة رفع الحصار عن المنطقة».
وأدانت حركة الجهاد الإسلامى، بأشد العبارات تصريحات ترامب الأخيرة، ودعت الحركة فى بيان كل الدول إلى رفض ما وصفته بـ«خطة ترامب»، مشيرة بشكل خاص فى هذا الشأن إلى الحكومتين المصرية والأردنية.. وقالت إن «الشعب الفلسطينى بصموده ومقاومته، سيُفشل هذا المخطط كما أفشل مخططات سابقة كثيرة».. ومضى البيان بالقول، إن «تصريحات ترامب المُدانة والمستهجنة، تتسق مع أسوأ ما فى أجندة اليمين الصهيونى المتطرف، واستمرار سياسة التنكر لوجود الشعب الفلسطينى وإرادته وحقوقه.. كما أنها تندرج فى إطار التشجيع على مواصلة ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لإجبار شعبنا على الرحيل عن أرضه».. وهو نفس ما ذهبت إليه حماس، التى رفضت دعوة ترامب توطين الفلسطينيين بقطاع غزة فى الأردن ومصر.. وقالت فى بيان لها إن «شعبنا الذى صمد فى وجه أبشع جرائم الإبادة الجماعية فى التاريخ الحديث، التى ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلى الفاش».. يرفض رفضًا قاطعًا أى مخططات لتهجيره من أرضه».. وطالبت الإدارة الأمريكية «بالتخلى عن هذه المقترحات التى تتطابق مع المخططات الإسرائيلية، وتتعارض مع حقوق شعبنا وإرادته الحرة»، كما طالبتها «بالعمل على تمكين الشعب الفلسطينى من تحقيق حريته وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس».. وطالبت واشنطن بالضغط على إسرائيل «لتسريع آليات إعادة إعمار ما دمرته خلال حربها الوحشية على غزة وإعادة الحياة الطبيعية فى القطاع».. كما ناشدت الدول العربية والإسلامية، وفى مقدمتها مصر والأردن، «التأكيد على مواقفها الثابتة الرافضة التوطين والإبعاد»، وتقديم كل أشكال الدعم للشعب الفلسطينى.
كذلك، أكدت مصر رفضها دعوة الرئيس الأمريكى، نقل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن، وقالت السفارة المصرية فى الولايات المتحدة إن مصر «لا يمكن أن تكون جزءًا من أى حل يتضمن نقل الفلسطينيين إلى سيناء».. وتأتى تصريحات ترامب، بعد تصريحات مهمة من الرئيس عبدالفتاح السيسى، قبل أيام قليلة، وتحديدًا خلال كلمته بمناسبة الاحتفال بذكرى عيد الشرطة المصرية، إذ قال، إن مصر، «وبحكم مسئوليتها التاريخية، ووضعها الإقليمى والتزاماتها الدولية، تسعى بكل طاقاتها وجهودها المخلصة، إلى نبذ العنف والسعى نحو السلام، ويعتبر اتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، شاهدًا حيًا على هذه الجهود الدءوبة، والمساعى المستمرة التى تبذلها مصر إلى جانب شركائها فى هذا الشأن، وسندفع بمنتهى القوة فى تنفيذ هذا الاتفاق بالكامل، سعيًا لحقن دماء الأشقاء الفلسطينيين، وإعادة الخدمات إلى القطاع ليصبح قابلًا للحياة، ومنع أى محاولات للتهجير، بسبب هذه الظروف الصعبة، لأنه الأمر الذى ترفضه مصر بشكل قاطع، حفاظًا على وجود القضية الفلسطينية ذاتها».
بل إن الرئيس السيسى، وفى الثامن عشر من أكتوبر 2023، صبيحة المجزرة الإسرائيلية فى المستشفى الأهلى المعمدانى، والتى أودت بحياة خمسمائة مدنى فلسطينى، أدلى بتصريحات مهمة عن تهجير الشعب الفلسطينى من قطاع غزة فى إطار مؤتمر صحفى مع المستشار الألمانى، أولاف شولتز.. وصف الرئيس فى حديثه وقتها القضية الفلسطينية، بأنها «قضية القضايا»، وأكد رفض مصر تهجير السكان الفلسطينيين؛ باعتباره سبيلًا لتصفية القضية الفلسطينية.. وقتها، لوّح الرئيس بالرفض الشعبى للفكرة، وهو ما تم فعلًا، من خلال دعوة المصريين للتظاهر وقتها، وخرج ملايين المصريين فى العشرين من أكتوبر، لرفض تهجير الشعب الفلسطينى، ومطالبة الحكومة بموقف أكثر قوة فى دعم الفلسطينيين فى قطاع غزة ومواجهة العدوان الإسرائيلى.. ووقتها أيضًا، قال الرئيس بوضوح، إنه من الممكن لإسرائيل أن تقوم بنقل السكان من غزة إلى صحراء النقب، إذا كانت تريد إسرائيل تهجير الفلسطينيين لحمايتهم.. وهو تصريح مفهوم أنه للسجال فقط، لأن مبدأ التهجير نفسه مرفوض لدى مصر، أيًا كان المبرر.
وقد صف المفكر السياسى، الدكتور مصطفى الفقى، تصريحات الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، بشأن عزمه الاتصال بالرئيس عبدالفتاح السيسى، وطلب استقبال بعض الفلسطينيين من أهالى غزة، بالاستفزازية، «تصريحات ترامب مستفزة، ويقف وراءها رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، هو واليمين المتطرف فى حكومته ومن خلفهما اللوبى اليهودى فى أمريكا.. وقد أعلنت مصر عن موقفها على لسان رئيسها بشكل واضح، بأنها ترفض مقترح وخطط ومحاولات التهجير، وأنه خط أحمر بالنسبة لها».
من جهته، جدد الأردن، رفضه إعادة توطين الفلسطينيين.. وقال وزير الخارجية الأردنية، أيمن الصفدى، فى مؤتمر صحفى مشترك فى عمان مع منسقة الأمم المتحدة للشئون الإنسانية وإعادة الإعمار فى غزة، سيجريد كاج، إن «مبادئنا واضحة، وموقف الأردن الثابت فى دعم الوجود الفلسطينى على أرضه، لم يتغير ولن يتغير أبدًا».. وأوضح أن رفض الأردن التوطين «أمر ثابت وضرورى لتحقيق الاستقرار، وأن حل القضية الفلسطينية هو فى فلسطين، والأردن للأردنيين، وفلسطين للفلسطينيين».
ومن الولايات المتحدة، قال السيناتور الأمريكى، ليندسى جراهام، «لا أرى أن فكرة رحيل جميع الفلسطينيين والذهاب إلى مكان آخر»، وهو اقتراح غير عادى، من شأنه أن يرقى إلى اغتصاب كبير للأراضى الفلسطينية.. وعندما سُئل جراهام، وهو عضو فى مجلس الشيوخ منذ عام 2003 وحليف لترامب، عما يعنيه الرئيس بـ«تنظيف قطاع غزة برمته»، قال «لا أعرف ما الذى يتحدث عنه، لكن تحدثوا مع محمد بن سلمان، وتحدثوا مع الإمارات، وتحدثوا مع مصر.. ما خطتهم للفلسطينيين؟.. هل يريدون المغادرة؟.. أو ما هى الخطة؟».
●●●
يقول الكاتب والمحلل السياسى، أمير مخول، «فى التاريخ الفلسطينى، لم يكن هناك أى تهجير مؤقت، هناك تهجير دائم منذ النكبة حتى اليوم.. ورأينا أن ما هو مؤقت هو الأكثر ديمومة، وقضية اللاجئين هى أكبر شاهد، وقضية النازحين بعد حرب عام 1967 أيضًا، ولذلك لا قبول بالتهجير فلسطينيًا وأعتقد لا يوجد فلسطينى يقبل بذلك».. هذا يعيدنا لموقف الرئيس السيسى فى بداية الحرب فى غزة، عندما أرادت إسرائيل أن تُحدث نقلًا سكانيًا لسيناء، فقال فلتقم إسرائيل بذلك فى النقب، حيث غالبية سكان غزة لاجئون من هذه المنطقة فى تحدٍ للموقف الإسرائيلى.. والآن، يأتى المشروع مجددًا من ترامب، الذى نقل فى خطاب التنصيب عدة مواقف وأمور، أحدها أن غزة موقع استثنائى، وتحدث عن فكرة إعادة الإعمار بشكل مختلف، وأن «غزة موقف استثنائى»، هذا مصطلح ليس من باب الجغرافيا ولا السياحة، ترامب لا يفكر بهذه الأمور، إنما يفكر بها كموقع استراتيجى، وهذا يعيدنا للمشروع الأمريكى الإسرائيلى الهندى الذى يمرّ فى الممر التجارى البرى المائى من الهند إلى أوروبا، والفكرة أن يُحوّل ميناء غزة لميناء إسرائيلى أو أمريكى، ويتم هناك تحويل البضاعة لأوروبا، وهذا مخطط توسيع لإسرائيل.
«الآن، ترامب يطالب دولًا عربية، هى: مصر والأردن، وهى أول دول احتجت ومنعت التهجير فى بداية الحرب، فقد كان هناك مخطط أمريكى بإدارة بايدن، أن يتم نقل الفلسطينيين إلى سيناء، ومن ثم نقلهم بالبواخر الأمريكية وغيرها إلى دول أخرى».. هكذا يستكمل أمير مخول، «الوضع الآن مختلف، ترامب يسعى للسيطرة على الغاز الفلسطينى الطبيعى فى بحر غزة، أو فى المياه الإقليمية، التى هى ملك الشعب الفلسطينى».. فالمقترح لن يكون له أساس، إعادة الإعمار ليس عملًا خيريًا، وترامب طرح إعادة الإعمار بشكل مختلف، وهو ما طرحته المعاهد الإسرائيلية لأبحاث الأمن القومى وغيرها، وتحدثت عن الإلغاء الكامل لوجود المخيمات فى غزة، لن يُعاد بناؤها وكذلك فى الضفة الغربية، حيث يتم الحديث الآن عن اجتثاث المخيمات.. والهدف من وراء ذلك، القضاء على ما يسمى البيئة الحاضنة للفصائل الفلسطينية، وفى المقابل، القضاء كما تقول إسرائيل على رواية العودة واللجوء وحق العودة، ولهذا تستهدف إسرائيل أونروا التى لن تعود لغزة!!
مشروع ترامب، خطير جدًا واستعمارى بامتياز، لإغداق الأموال وينبغى التصدى له، وإن كان هناك حاجة لنقل سكانى، فليكن بقرار فلسطينى كامل إلى داخل النقب، كموقف متقدم لمنع تنفيذ مقترح ترامب، وفى المقابل، يجب الحفاظ على الحق الفلسطينى، فإعادة الإعمار فى غزة ليس الهدف منها القضاء على الحق الفلسطينى.. الفكرة الأمريكية والإسرائيلية لإعادة الإعمار، هى البناء بطوابق عالية فى الأبراج السكنية بالمخيمات، وبالذات جباليا، وباقى المخيمات وعددها ثمانية، ويشكل سكانها ربع سكان قطاع غزة من اللاجئين، وحين يتم البناء العالى بطوابق، تتم السيطرة على النسيج الاجتماعى الفلسطينى وتخريبه.. وهذا تم تجريبه بعد النكبة فى الثمانينيات، عندما جاء علماء الديموغرافيا «الهندسة السكانية)» لدفع فلسطينيى الداخل لبناء طوابق وليس الواحد بجانب الآخر، بحجة أن هناك نقصًا فى الأراضى، ولكن الحقيقة أنه لا نقص فى الأراضى، ولكن الدولة لا تريد أن تعطى الفلسطينى أرضًا، والهدف كان السيطرة على التكاثر الطبيعى عند الفلسطينيين، والآن هناك هبوط حاد لما كان عليه الفلسطينى فى سنوات الثمانينيات إلى اليوم بالتكاثر الطبيعى، وهذا النوع من السيطرة الديموغرافية، يسعون لزيادتها إسرائيليًا وتقليصها فلسطينيًا.
والآن، يأتى دور غزة، وهناك مسعى لاستنساخ نموذج الداخل الفلسطينى، تحت نظرية التطوير، ولكن فعليًا هو تهجير للقضية إن لم يكن تهجيرًا للسكان، «التهجير قضية يجب التصدى لها واتخاذ موقف فلسطينى وعربى ودولى واضح.. البيئة الدولية داعمة، ولكن يبقى موقف ترامب والولايات المتحدة وتل أبيب، وهذا دائم الوجود، ولكن يجب إحباط المخطط بشكل كامل».. ويقول مخول: «مقترح ترامب هو مخطط قديم وليس وليد اللحظة، وحصل عدة مرات فى تاريخ غزة والضفة.. فخلال سنوات الثمانينيات، كان حزب العمل يتحدث عن ذلك، وكانت المخططات بعد كامب ديفيد، هو نقل سكانى وإعادة إعمار من خلال تبادل سكانى، ولكن الآن حديث عن مشروع طُرح عام 2014 بشكل واضح، وأيضًا عام 2009، والآن يعود بشكل مكثف لأن هناك دمارًا هائلًا».. هناك جزء من هذا المخطط، هو أن المسعى الإسرائيلى أيضًا استخدام الركام والردم الهائل الذى تحدث عنه ترامب؛ بوصفه موقع هدم ضخمًا، الحديث يدور عن توسيع مساحة غزة فى البحر، أى تجفيف مناطق باستخدام الردم، وهذا كان مخطط ليسرائيل كاتس، حينما كان وزيرًا للخارجية، فى بناء جزيرة اصطناعية فى قلب البحر مقابل غزة، ونقل نحو نصف المليون فلسطينى لها، والحديث عن توسيع الحدود فى البحر للحفاظ على المنطقة العازلة، وهذا عمليًا توسيع لحدود إسرائيل وليس توسيعًا لحدود غزة.
«المخططات جدية، وبعضها يعود عشرات السنين للوراء، بموضوع النقل السكانى لأهل غزة، ولكن الآن الموضوع مندمج مع إعادة الإعمار، وهذا ليس مشروعًا خيريًا، وربما يكون الأخطر على تاريخ فلسطين بعد الحرب على غزة».. هذا ما يؤكده مخول، الذى يرى أن «الحديث عن أن إسرائيل لم يكن لديها تصور لليوم التالى للحرب، اتضح أنه غير صحيح، فيوجد لها تصوّر، ولكن هل تنجح فى تطبيقه بدعم ترامب؟.. ليس بالضرورة».. فـ«المواقف الأردنية والمصرية حاسمة فى مسألة التهجير.. الأردن لها موقف واضح بهذا الشأن، فهو يعتبر ما يطلبه ترامب تهديدًا للأمن القومى، فهى أكثر دولة فيها فلسطينيون، والفلسطينى يعتبر جزءًا من الكيان الأردنى لحين العودة، وإذا وافق الأردن بلاجئى غزة، سيُفرض عليه قبول لاجئى الضفة.. الأردن سيرفض الطلب بأى شكل كان، قضية الديموغرافيا فى الأردن حساسة، ولذلك السعى لحل مشاكل إسرائيل، من خلال تحميلها على مصر والأردن، سيرفضه الأردن الذى رفض تهجير غزة إلى جانب مصر».
●●●
وفى الوقت الذى أعرب المرصد الأورومتوسطى لحقوق الإنسان، عن بالغ قلقه وإدانته الشديدة إزاء تصريحات ترامب، عن نيته تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، ودعوته الدول المجاورة إلى استقبال الفلسطينيين من سكان قطاع غزة، بعد أكثر من خمسة عشر شهرًا من ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية بحقهم، وما تضمنته من تدمير شامل لمقومات الحياة الأساسية فى القطاع، فى انتهاك صارخ للقانون الدولى.. وشدد المرصد على أن الفلسطينيين، الذين يعانون آثارًا كارثية، جراء جرائم إسرائيل المرتكبة فى حقهم، يجب ألا يتحملوا ثمن هذه الإبادة الجماعية، عبر تهجيرهم قسرًا خارج وطنهم، فى حين تبقى إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، الجهة الوحيدة التى يجب أن تتحمل المسئولية القانونية والأخلاقية، عن جرائمها التى ارتكبتها هناك، وتعويض الفلسطينيين، وإعادة إعمار قطاع غزة بأسرع وقت ممكن.. مؤكدًا أن أى خطط لنقل السكان المدنيين قسرًا تحت الاحتلال، هى مخالفة صريحة لاتفاقية جنيف الرابعة، التى تنص بوضوح، على حظر الترحيل القسرى للسكان الواقعين تحت الاحتلال.. كما أن مثل هذه الخطط تمثل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتتعارض مع الحق الطبيعى والمكفول دوليًا للشعب الفلسطينى فى البقاء على أرضه ووطنه.. بل إن التهجير القسرى للفلسطينيين لا يمثل فقط جريمة دولية، بل هو جزء من استراتيجية تهدف إلى تعزيز جرائم الترحيل القسرى والطرد المنهجى، التى تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ عقود. كما أن تصريحات ترامب، التى تدعو إلى تفريغ غزة من سكانها، عبر إجبار الدول المجاورة على استيعابهم، تتناقض مع الروابط التاريخية والثقافية العميقة التى تربط الفلسطينيين بأرضهم، فضلًا عن أنها تُعد بمنزلة دعم مباشر لسياسات إسرائيل التوسعية والاستعمارية، التى تسعى بشكل منهجى إلى تفريغ الأراضى الفلسطينية من سكانها، لصالح مشاريعها الاستعمارية الاستيطانية غير القانونية، بهدف إحلال الإسرائيليين مكان الفلسطينيين.. وأضاف المرصد، أن إسرائيل عملت على مدى أشهر طويلة، على تنفيذ جريمة الإبادة الجماعية عبر ارتكاب مجازر واسعة النطاق، استهدفت المدنيين، ودمرت الأحياء والمدن والبنية التحتية فى قطاع غزة بشكل منهجى، فى محاولة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة القسرية واقتلاعهم من أرضهم.. ولم تقتصر هذه السياسات على القتل والتدمير والتجويع، بل امتدت إلى تدمير مقومات الحياة الأساسية، مثل المياه والكهرباء والتعليم والخدمات الصحية، لتقويض قدرة الفلسطينيين على الصمود على أرضهم، وخلق بيئة قسرية تدفعهم إلى مغادرة وطنهم.
إلا أن مسئولين إسرائيليين رفيعى المستوى، قالوا إن تصريحات ترامب حول هجرة الغزيين ليست «زلة لسان» من ترامب، بل جزء من مسار أوسع مما يبدو.. إذ قال وزير مالية حكومة الفاشية اليهودية، بتسلئيل سموتريتش، إن اقتراح ترامب، إن «نقل سكان غزة إلى الدول المجاورة، لمساعدتهم فى العثور على أماكن أخرى، فكرة عظيمة».. ونقل موقع «واينت» العبرى عن وزير المالية الإسرائيلي، قوله: «بعد سنوات من تمجيد الإرهاب، سوف يتمكنون من تأسيس حياة جديدة وجيدة.. فقط التفكير خارج الصندوق وإيجاد حلول جديدة، سيؤدى إلى تحقيق حل للسلام والأمن.. وسأعمل مع رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ومجلس الوزراء، لضمان تنفيذ فكرة مغادرة أعداد كبيرة من غزة إلى دول مجاورة فى أقرب وقت ممكن».. وأثنى وزير الأمن القومى الإسرائيلى المستقيل، إيتمار بن غفير، على اقتراح الرئيس الأمريكى، وقال فى تدوينة عبر حسابه على منصة إكس، «أهنئ الرئيس ترامب على مبادرته بنقل السكان من غزة إلى الأردن ومصر.. أحد مطالبنا من رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، هو تشجيع الهجرة الطوعية».. وأضاف بن غفير «عندما يطرح رئيس أكبر قوة فى العالم الهجرة الطوعية للفلسطينيين، فمن الحكمة أن تشجعها وتنفذها حكومتنا».
وردت عضو الكنيست، يوليا مالينوفسكى، على إعلان ترامب، بقولها: «فى عام 2010، قال أفيجدور ليبرمان، إنه يجب علينا أن نقول وداعًا لغزة تمامًا، لا معابر، لا بنية تحتية، لا كهرباء، لا ماء ولا وقود، وها هو يأتى يوم جديد».. رئيس جديد فى الولايات المتحدة يدرك الحلف، خلافًا لبقية دول العالم.. إن حدود غزة مع مصر يبلغ طولها أربعة عشر كيلومترًا، تواصل يوليا كلامها: «مصر دولة مسلمة، ويتحدثون نفس اللغة، وسوف يقبلون المسئولية عن غزة.. لا ينبغى أن تكون هذه مشكلتنا.. نحن بحاجة إلى استكمال فك الارتباط الكامل من غزة، والتخلص من هذه المشكلة مرة واحدة وإلى الأبد، مع الحفاظ على محيط أمنى وحرية العمليات إذا لزم الأمر، ولكى يقبل العالم المسئولية».
وهذا ما دعا المرصد الأورومتوسطى إلى موقف إقليمى ودولى رافض تصريحات ترامب، بشأن ترحيل سكان قطاع غزة، وأكد أن اقتراح التهجير الجماعى كحل للصراع المستمر، لا يؤدى إلى عدم معالجة جذور المشكلة فحسب، بل يعمق معاناة الشعب الفلسطينى ويزيد من الظلم الواقع عليه، ويسلب حقوقهم المشروعة فى تقرير مصيرهم والعيش فى وطنهم بأمان، كما من شأن هذه التصريحات وأى خطوات مترتبة عليها، زعزعة الاستقرار الإقليمى وتعزيز التوترات فى المنطقة.. وطالب المرصد الأورومتوسطى المجتمع الدولى، بالالتزام التام بمبادئ القانون الدولى، وبتبنى حلول قائمة على احترام حقوق الفلسطينيين، بما فى ذلك إنهاء الاحتلال الإسرائيلى غير القانونى للأراضى الفلسطينية، ومحاسبة إسرائيل عن جرائمها المستمرة، ووضع مسار واضح لتحقيق العدالة للفلسطينيين، مع ضمان عودة جميع اللاجئين والنازحين الفلسطينيين إلى مناطقهم الأصلية، وفقًا للقرارات الدولية ذات الصلة، بدلًا من العمل بأى شكل من الأشكال، على دعم أى سياسات تهدف إلى اقتلاع سكان فلسطين الأصليين لصالح إسرائيل.
وهذا يدفعنا إلى السؤال الأهم: ما الذى على العالم العربى اتخاذه من مواقف، للتصدى لرغبة ترامب، الذى بينما أشار إلى إحلال السلام فى المنطقة، خلال حملته الانتخابية، نراه اليوم يدفع بهذه المنطقة إلى حافة الهاوية، بتبنيه رغبات نتنياهو، وإفراغ قطاع غزة من أهله، وهو التوجه الذى ذهب إليه رئيس الوزراء الإسرائيلى، من خلال «خطة الجنرالات»، التى كان قد بدأ تنفيذها فى شمال القطاع؟
●●●
ردود الأفعال «الغاضبة» حيال تصريحات ترامب وما كشفه عن خطته حول مستقبل غزة، بمكالمة مع العاهل الأردنى، الملك عبدالله الثانى، وسط دعوات سياسيين ومراقبين إلى ضرورة «الاشتباك» مع هذه المواقف، عبر تحرّك عربى دبلوماسى يضم السعودية ومصر والأردن ودولًا أخرى، لرفض «تهديدات» التهجير، والتأكيد على ثوابت القضية الفلسطينية، والتصدى لأى تحديات قد تمس بالأمن الوطنى للدول العربية واستقرارها.. إذ إن التصريحات التى فاجأت الأوساط السياسية والشعبية فى مصر والأردن بالذات، كانت الثانية من نوعها، بعد إعلان وزارة الخارجية الأمريكية، تجميد كل المساعدات الخارجية لمدة تسعين يومًا، باستثناء مصر وإسرائيل، حيث وقّع الأردن مع الولايات المتحدة مذكرة تفاهم فى 2022 لمدة سبع سنوات، بقيمة 10.15 مليار دولار أمريكى، وُصفت بأنها أكبر وأطول اتفاقية من نوعها فى تاريخ العلاقات الثنائية، وتم تحويل الجزء الثانى منها كمنحة بقيمة 845.1 مليون دولار نهاية العام المنصرم.
لكن الحديث عن تهجير أهالى قطاع غزة إلى مصر والأردن، اعتبره العضو فى مجلس الأعيان الأردنى، عمر العياصرة، مفاجئًا، ليس للأردن فقط، بل لمصر وللنخب السياسية، بما «يُضمره» من أهداف استباقية ومتعددة الرسائل والأوجه سياسيًا ودبلوماسيًا، للوصول إلى «تفاوض» و«عقد صفقات» على المدى الأطول.. وهذه مدرسة ترامب، كما يقول ويقول العياصرة.. إثارة الطروحات بأقصاها للتفاوض والذهاب ثم عقد صفقته.. لكن هذا مؤشر على انخراط ترامب فى الملف الفلسطينى وفى الضفة الغربية وفى قضايا الضمّ.. و«لا ننسى تصريحه عندما تحدث عن توسيع إسرائيل»!!.. هذه التصريحات «لا تعنى الذهاب نحو اشتباك مصر والأردن معها، بل بالذهاب إلى اشتباك أقل من خلال «الإعلام وقادة الرأى»، حيث صرّح ترامب عن قناة بنما وخليج المكسيك وضم كندا.. ليس كل ما يقوله ترامب يريده، ولكن ربما أقل من المعلن، ومنها عدم عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى غزة، وأن تقوم كل من مصر والأردن بدرجة أقل بدور أمنى، أو فى إدارة القوة المشتركة التى من الممكن أن تكون فى غزة.. بمعنى أن إدارة ترامب وإسرائيل، أمام معضلة اسمها، «اليوم الثانى لغزة بعد الحرب ومن يحكم غزة؟».
الخطوط الحمراء التى أكدت عليها مصر والأردن رسميًا، مرارًا حيال القضية الفلسطينية والضفة الغربية، تتطلب اليوم إعادة بلورتها بشكل أكثر تصميمًا مع الموقف الفلسطينى والسعودى.. «هذه المواقف الأربعة، المصرية والأردنية والفلسطينية والسعودية، حتى الإماراتية والقطرية، لا بد من بلورتها فى إطار مجموعة عربية لرفض الضم بكل أشكاله والتهجير بكل أشكاله».. وداخليًا، حاجة إلى ما وصفه العياصرة بـ«السكينة عامة» ووقف التراشق المتعلق بما جرى فى غزة، «الداخل يجب أن يكون داعمًا وليس مشتتًا للقيادة فى التعامل مع هذه الملفات، لأنها ملفات خطيرة ودقيقة.. يجب ألا تظهر مصر والأردن مشتبكتان مع الولايات المتحدة بشكل فردى، بل من خلال مجموعة عربية».. ودعا نائب رئيس الوزراء الأردنى السابق، الدكتور جواد العنانى، إلى «اعتماد الدبلوماسية الناعمة» فى التعاطى مع الموقف الأمريكى، والاستدارة نحو العمق العربى، خصوصًا إلى السعودية، «نحن بحاجة ماسة اليوم إلى بناء قاعدة من المعلومات، ومن المواقف الواضحة الثابتة فى هذا الشأن، والاستعداد لاحتمالات أسوأ مما يبدو على السطح».. مع أهمية توجيه رسائل طمأنة للشعب الفلسطينى، بعد أكثر من عام من الحرب، إلى جانب تكثيف التحرك الدبلوماسى على كل الجبهات العربية والدولية، وباتجاه «السعودية والبريطانيين».
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.