شيطان «الحارث».. ودين «الخرمية»
سنة ٩٦ هجرية وفى عصر عبدالملك بن مروان ظهر على مسرح الدولة الأموية، ولأول مرة، رجل حمل فوق ظهره تهمة «الزندقة»، بمعناها الذى يشير إلى الخروج عن المألوف السياسى فى فهم الدين. هذا الرجل هو «الحارث بن عبدالرحمن بن سعيد الدمشقى» والملفت أنه كان من موالى الحكم بن مروان، يعنى من داخل البيت المروانى الذى استولى على الحكم الأموى، عن طريق مروان بن الحكم، بعد الإطاحة بأحفاد معاوية بن أبى سفيان. يذكر «ابن كثير» أن «الحارث»: «نزل دمشق وتعبد بها وتنسك وتزهد، ثم مكر به ورجع القهقرى على عقبية، وانسلخ من آيات الله تعالى، وفارق حزب الله المفلحين، واتبع الشيطان فكان من الغاوين، ولم يزل الشيطان يزج فى قفاه حتى أخسره دينه ودنياه وأخزاه وأشقاه، فإنا لله وحسبنا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله».
الحارث إذن كان مؤمنًا مخلصًا لله «زاهدًا ناسكًا» على ولاء للبيت الحاكم «بيت مروان بن الحكم وأولاده»، ولم يزل الشيطان به حتى «أخسره دينه ودنياه»، ما يعنى أن الرجل خسر دنياه من ضمن ما خسر. عاش الرجل مسبحًا حامدًا راكعًا ساجدًا لله، وحين ظهر له بعض الأمور- التى لم يحددها «ابن كثير»- أرسل إلى أبيه يقول: إنى قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لى، فزاده أبوه غيًا على غيه، فكتب إليه أبوه: يا بنى أقبل على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول: «هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم». ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به. لم يوضح ابن كثير ما هى الأمور التى عرضت للحارث، ووافقه أبوه عليها، وكيف ضرب الغى الاثنين معًا؟ وهل كانت هذه الأمور تتعلق بالدنيا أم بالدين؟
إشارات متنوعة تجدها فى قصة «الحارث بن عبدالرحمن» تدل على أن خلاف الرجل مع «بيت الحكم المروانى» كان دنيويًا ولم يكن دينيًا، رغم المحاولات التى بذلها «ابن كثير» فى اغتيال الرجل معنويًا، من خلال ما ذكره من ادعائه النبوة، وأنه أتى العديد من الأعاجيب التى تفتن العوام، مثل النقر على رخامة فى المسجد فيصدر منها صوت تسبيح، وتقديم فاكهة الصيف فى الشتاء، وفاكهة الشتاء فى الصيف، وكيف كانت تظهر الملائكة للناس وغير ذلك!. كل هذه الحكاوى لم يكن لها من هدف سوى تشويه الرجل، والتستر على ما طرحه من أفكار، ربما تكون معارضة كل المعارضة لبيت الحكم، والدليل على ذلك أنه لما قبض عليه كان يردد قوله تعالى: «قل إن ضللت فإنما أضل على نفسى، وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى إنه سميع قريب»، وكان يقول للجنود الذين أمسكوا به ليصلبوه: «أتقتلون رجلًا أن يقول ربى الله»، ولما وجدوه يتلو كتاب الله تعالى ويستند إليه تعجبوا منه، وقالوا له بسذاجة: هذا قرآننا فهات قرآنك، فقد سمعوا مثل غيرهم أنه ادعى النبوة، فطالبوه بأن يسمعهم قرآنه، وبالطبع لم يرد الرجل عليهم، لأنه كان مؤمنًا مثلهم.
هكذا انتهت رحلة «الحارث» المتهم بالخروج عن المألوف السياسى فى فهم الدين، لنجد أنفسنا بعدها أمام نموذج جديد للزندقة، كما فهمها الأولون، وكما توارثت الأجيال مفهومها. وهو نموذج عمار بن يزيد الملقب بـ«خداش»، الذى يضعنا أمام الزنديق كرجل متهم بطرح أفكار دينية مختلفة عن الأفكار الشائعة، إلى حد وصمه باعتماد دين جديد بعيد عن الإسلام، هو دين الخرمية.
ظهر عمار بن يزيد «خداش» أواخر العصر الأموى، خلال الفترة التى شهدت الدعوة لتمكين بنى العباس من الخلافة، تحت رئاسة محمد بن على، أول من دعى له بالخلافة من بنى العباس أواخر العصر الأموى. ومحمد بن على هو حفيد عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب، ويذكر «ابن كثير» أن كبير العباسيين غضب على شيعته فى خراسان حين وجدهم يستمعون إلى أفكار «خداش»، وكان خرميًا، وهو الذى أحل لهم المنكرات، وجنس المحارم والمصاهرات. وقد بدأ خطر «الخرمية» فى الظهور فى عصر متأخر أيام الخليفة العباسى هارون الرشيد، وذلك على يد «بابك الخرمى»، الذى شكل مركزًا خطيرًا لمعارضة العباسيين داخل مدن فارس، مثل همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان، سواء فى عصر الرشيد أو من تلاه من خلفاء.
التف الكثير من سكان بلاد فارس حول بابك الخرمى وأيدوه وقاتلوا معه أعداءه العباسيين، ونشبت بين الطرفين معارك طاحنة طيلة عصر الرشيد، ثم الأمين، ثم المأمون ثم المعتصم بالله. ما يقرب من ٢٠ عامًا كاملة قضاها «بابك الخرمى» فى قتال خلفاء بنى العباس، حيث يشير «ابن كثير» إلى أنه ظهر سنة ٢٠١ هجرية، ولم يتم القضاء عليه إلا بعد حرب طاحنة خاضها «الأفشين»، أحد أشرس القادة العسكريين فى عصر المعتصم بالله، كانت أولى معاركها عام ٢٢٠ هجرية، وفيها قتل الأفشين ما يزيد على ١٠٠ ألف من أتباع «بابك»، ما يدل لك على حجم التأييد الشعبى الذى حظى به، وقناعة وإيمان الملتفين حوله به. يذكر «ابن كثير» أن «بابك» هرب إلى مدينته- بعد هزيمته الأولى أمام الأفشين- فأوى فيها مكسورًا، فكان هذا أول ما تضعضع أمره، ومع ذلك فقد واصل القتال حتى النهاية.
يقول «ابن كثير» فى وصف «بابك»: «وكان زنديقًا كبيرًا وشيطانًا رجيمًا».. وأصل الزندقة لدى بابك، كما يصف المؤرخ الكبير، تمثلت فى اختراع دين جديد اسمه «دين الخرمية».. فكيف كان ذلك؟