رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخيانة تدمر ثورة العبيد

فى مواجهة التمدد فى نفوذ قائد ثورة الزنج «على بن محمد»، قرر أبوأحمد الموفق- شقيق الخليفة العباسى المعتمد على الله- الاستعانة بولده «أبى العباس»، وجعله على رأس جيش تعداده ١٠ آلاف مقاتل، تمكن من استرداد العديد من الأراضى التى استولى عليها صاحب الزنج وأتباعه، خصوصًا فى منطقة دجلة وما حولها، وتمكنت جيوش «الموفق» من دخول مدينة «واسط» وتخليصها من أيدى أنصار صاحب الزنج، ثم حان حين المعركة الأخطر والمتمثلة فى اقتحام مدينة «المنيعة» التى أنشأها صاحب الزنج وتحصن بها، هنالك سار أبوأحمد الموفق إلى المدينة وقاتل الزنج دونها قتالًا شديدًا، لكن «الموفق» تمكن من قهرهم ودخلها عنوة، وهرب الزنج منها، فبعث فى آثارهم جيشًا فلحقوهم إلى البطائح يقتلون ويأسرون منهم، وغنم أبوأحمد من «المنيعة» شيئًا كثيرًا- كما يشير «ابن كثير»- واستنقذ من النساء المسلمات خمسة آلاف امرأة، وأمر بإرسالهن إلى أهاليهن بواسط وأمر بهدم سور البلد، وحتى تلك اللحظة لم يكن أبوأحمد الموفق قد تمكن من الوصول إلى قائد الثورة «على بن محمد» بعد، وكان الأخير قد فر إلى مدينة أخرى له تسمى «المنصورة».

تحرك «الموفق» إلى مدينة «المنصورة»، وحاصرها بعدد كبير من القوات، ورمى أبوالعباس بن الموفق «أحمد بن هندى»، بسهم فقتله، وكان «ابن هندى» من أكابر أمراء صاحب الزنج وقائد الدفاع عن المدينة، فشق ذلك على الزنج جدًا، واشتد «الموفق» فى قتالهم، وهم يدافعون بشراسة عن مدينتهم وعن قائدهم، وكانت المدينة محصنة غاية التحصين، إذ يحيط بها خمسة خنادق وخمسة أسوار، فكانت قوات «الموفق» كلما جاوزت سورًا قاتل جنود أصحاب الزنج دون الآخر، وتواصل القتال حتى تمكن «الموفق» وجيشه من دخول البلد، فقتل من أتباع صاحب الزنج خلقًا كثيرًا وهرب بقيتهم، وأسر من نساء الزنج نساء كثيرة وصبيانا. أصدر أبوأحمد الموفق قراراته بهدم أسوار المدينة وردم خنادقها وأنهارها، وأقام بها سبعة عشر يومًا، وأرسل قواته لمطاردة الهاربين. بعدها- كما يقول «ابن كثير»- كتب «الموفق» كتابًا إلى صاحب الزنج يدعوه فيه إلى التوبة والرجوع عما ارتكبه من المآثم والمظالم والمحارم ودعوى النبوة والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج الحرام، ونبذ له الأمان إن هو رجع إلى الحق.

لم يرد «صاحب الزنج» على رسالة «الموفق» واستخف بها، فما كان من الأخير إلا أن سار إليه، على رأس جيش تعداده ٥٠ ألف مقاتل، وكان «على بن محمد» فى ذلك الوقت يتحصن فى مدينة «المختارة» التى آوى إليها بعد سقوط مدينة المنيعة ثم المنصورة، ومن حوله ما يزيد على ٣٠٠ ألف مقاتل مكتملى العتاد والسلاح، طال القتال بين الفريقين وأبلى فيه أبوالعباس بن الموفق بلاءً حسنًا، وحاول بكل الطرق العسكرية اقتحام المدينة دون جدوى، فما كان منه إلا أن بدأ فى استقطاب الأمراء الملتفين حول صاحب الزنج واستمالهم بالهدايا والرشاوى، فانفض بعضهم عنه، لكن ذلك لم يؤد إلى سقوط صاحب الزنج وأتباعه، وتواصل حصار جيش «الموفق» وولده لمدينة «المختارة» طيلة عام ٢٦٧، ومع الدخول فى العام التالى حدث تحول نوعى فى الموقف حين استمال «الموفق» واحدًا من أخطر قادة صاحب الزنج فخان قائده وانحاز إلى العباسيين، وهذا القائد هو جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان، يقول «ابن كثير»: «وكان من أكابر صاحب الزنج وثقاتهم، فأمّنه الموفق وفرح به وخلع عليه وأمره فوقف تجاه قصر الملك فنادى فى الناس وأعلمهم بكذب صاحب الزنج وفجوره، وأنه فى غرور هو ومن اتبعه فاستأمن بسبب ذلك بشر كثير منهم، وبرد قتال الزنج عند ذلك».

بعد هذا التحول النوعى تشجعت قوات الموفق واندفع أبوالعباس ولده إلى مدينة «المختارة»، حتى وصل إلى وسطها، وإذ به وبقواته يفاجئون بالعديد من الكمائن التى نصبها لهم صاحب الزنج وجنوده، أخذت قوات «الموفق» بالمفاجأة وقتل منهم الكثيرون. يقول «ابن كثير»: «فقُتل من المسلمين خلقًا كثيرًا واستلبوهم وفر الباقون فلامهم الموفق على مخالفته وعلى العجلة، وأجرى الأرزاق على ذرية من قتل منهم فحسن ذلك عند الناس». اقتحم «الموفق» مدينة صاحب الزنج بعدد أكبر من الجنود، وتمكن من قتل الكثيرين من أتباعه، لكنه أصيب بسهم أتاه إصابة بالغة، وأقام ببلده أيامًا يتداوى، فاضطرب الحال بين قواته أشد الاضطراب، وبعد شفائه تحرك «الموفق» من جديد إلى المدينة واقتحمها من الناحية الغربية، وظل شهورًا يحارب داخل المدينة حتى يصل إلى جهتها الشرقية، وحينما أوشك على ذلك فر صاحب الزنج «على بن محمد» هاربًا. 

ظل «الموفق» يطارد صاحب الزنج من بلد إلى بلد، يقتل أصحابه وقواده، حتى تمكن من أسر أخطر وأهم قواده «سليمان بن جامع»، فاستبشر الناس بأسره. يقول «ابن كثير»: «وحمل الموفق بمن معه حملة واحدة على أصحاب الخبيث فاستحر فيهم القتل، وما انجلت الحرب حتى جاء البشير بقتل صاحب الزنج فى المعركة وأتى برأسه، فلما تحقق الموفق أنه رأسه بعد شهادة الأمراء الذى كانوا معه من أصحابه بذلك خر ساجدًا لله ثم انكفأ راجعًا إلى الموفقية ورأس الخبيث يحمل بين يديه وسليمان معه أسير فدخل البلد وهو كذلك، وكان يومًا مشهودًا وفرح المسلمون بذلك فى المغارب والمشارق».

وشاء الله أن تنتهى تلك الثورة الكبرى التى قادها «على بن محمد» صاحب الزنج، وامتدت فيها أيدى العبيد والمستضعفين للقضاء على سادة بغداد والبصرة والجلوس مكانهم على مقاعد السيادة.