ختام رحلة «قائد الردة السياسية»
مشهد عجيب دارت أحداثه بين طليحة الأسدى وعيينة بن حصن، حين اشتعل القتال بين جيشهما وجيش خالد بن الوليد الذى خرج لتأديبهما، بعد أن رفضا بيعة أبى بكر وارتدا عن الإسلام، على حد وصف كبار كتاب التراث. وصف «ابن كثير» تفاصيل المشهد قائلًا: «جلس طليحة الأسدى ملتفًا فى كساء له يتنبأ لهم، ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل ما يقاتل حتى إذا ضجر من القتال يجىء إلى طليحة، وهو ملتف فى كسائه، فيقول: أجاءك جبريل؟ فيقول: لا! فيرجع فيقاتل، ثم يرجع فيقول له مثل ذلك، ويرد عليه مثل ذلك، فلما كان فى الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟ قال: نعم! قال: فما قال لك؟ قال: قال لى إن لك رحاء كرحاه، وحديثًا لا تنساه، قال عيينة: أظن أن قد علم الله سيكون لك حديث لا تنساه، ثم قال: يا بنى فزارة انصرفوا وانهزم وانهزم الناس عن طليحة».
تتعجب وأنت تتأمل الحوار الذى دار بين طليحة وعيينة، ويزداد العجب إذا علمنا بعض التفاصيل عن شخصية عيينة بن حصن، الرجل الذى أسلم وقت الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، ما يعنى أن النبى علم أن إيمانه ضعيف، وإسلامه رخو، وعندما أسرته قوات خالد بن الوليد كان المسلمون يعايرونه على كفره من بعد إيمان، فيرد عليهم قائلًا: «ما آمنت بالله طرفة عين». شخصية بهذه التركيية وبهذا الفكر كيف تدير أمرها مع طليحة الأسدى الذى انحازت إليه ضد بنى هاشم بهذه الصورة وكيف تنتهى معه إلى السخرية منه؟ الأرجح أن هذه القصة غير حقيقية، وقد جاءت فى سياق المحاولات المتكررة لـ«ابن كثير» لصبغ تمرد القبائل العربية، ورفض بعضها مبايعة أبى بكر، بصبغة دينية، وللتأكيد على أن «طليحة» ادّعى النبوة، رغم العديد من المؤشرات التى تؤكد أن كل ما حدث يقع فى مربع «التمرد السياسى» بالأساس.
تمكن خالد بن الوليد من تشتيت جيش طليحة بن خويلد الأسدى، وعندما استشعر الأخير أن جنود «خالد» اقتربوا منه، امتطى ظهر فرسه، وأركب زوجته «النوار» على بعير له، وفر معها إلى الشام، وبعد أن شاع خبر هزيمته اتجهت بعض القبائل والبطون التى انحازت له، مثل «بنو عامر» و«سليم» و«هوازن»، إلى الانفضاض عنه، وأعلنوا عن مبايعة أبى بكر الصديق. هرب طليحة بامرأته إلى الشام فنزل على «بنى كلب»، وأسر «خالد» عيينة بن حصن، وبعث به إلى المدينة مجموعة يداه إلى عنقه فدخل المدينة. وقد كتب أبوبكر الصديق رسالة إلى خالد بن الوليد، حين جاءه أنه كسر «طليحة» ومن كان فى صفه فى موقعة بزاخة، قال له فيها: «ليزدك ما أنعم الله به خيرًا، واتق الله فى أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد فى أمرك، ولا تلن، ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نكلت به، ومن أخذت ممن حاد الله أو ضاده ممن يرى أن فى ذلك صلاحًا فاقتله».
وقف عيينة بن حصن أسيرًا بين يدى «أبى بكر» فاستتابه وحقن دمه، ثم حسُن إسلامه بعد ذلك، وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك أيضًا، وذهب إلى مكة معتمرًا أيام الصديق، لكنه خجل أن يواجهه مدة حياته، وقد رجع فشهد القتال مع خالد، واكتفى الأخير بمشورته طبقًا لتوجيهات الخليفة، ولم يعطه أى موقع قيادى، وقد أراد «أبوبكر» أن يلقنه درسًا قاسيًا بسبب جموحه وطموحه نحو الرئاسة. يقول «ابن كثير»: وكتب «الصدّيق» إلى «خالد» أن «استشره فى الحرب ولا تؤمّره»، يعنى معاملته له بنقيض ما كان قصده من الرياسة فى الباطن، وهذا من فقه الصديق، رضى الله عنه وأرضاه. ويقدم «ابن كثير» رواية أخرى لعودة طليحة الأسدى إلى حظيرة الدولة يذكر فيها أنه عاد فى زمان عمر بن الخطاب، حين رجع إلى الإسلام واعتمر، ثم جاء يسلم على «عمر»، فقال له: أغرب عنى، فإنك قاتل الرجلين الصالحين: عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم، فقال: يا أمير المؤمنين.. هما رجلان أكرمهما الله على يدى، ولم يهنى بأيديهما، فأعجب عمر كلامه، ورضى عنه، وكتب له يوصى الأمراء أن يشاور ولا يولّى شيئًا من الأمر. أيًا كان زمان العودة، وأيًا كان من أوصى بحرمان طليحة من المواقع القيادية «أبوبكر أو عمر»، فإن هذا الاستبعاد يمنحك تأكيدًا جديدًا على الاستخلاص الذى ذهبنا إليه، من أن الردة التى خاض غمارها طليحة الأسدى كانت ردة سياسية أكثر منها ردة دينية.
وظّف طليحة الأسدى طاقته بعد ذلك فى خدمة دولة الخلافة الراشدة، وبعد أن أتمّ العمرة فى مكة، عاد إلى الشام مجاهدًا، فشهد اليرموك وحروبًا كالقادسية ونهاوند، وكان فى هذه المشاهد من الشجعان المذكورين والأبطال المشهورين. ومن أشهر مواقف شجاعته ما حدث حين أرسله قائد المسلمين فى معركة نهاوند «النعمان بن مقرن» ضمن سرية من ثلاثة أفراد ضمت طليحة الأسدى، وعمرو بن معد يكرب الزبيدى، وعمرو بن ثبى، ليكشفوا له خبر القوم وما هم عليه فسارت الطليعة يومًا وليلة، فرجع عمرو بن ثبى فقيل له: ما رجعك؟ فقال: كنت فى أرض العجم، وقتلت أرض جاهلها، وقتل أرضًا عالمها، ثم رجع بعده عمرو بن معد يكرب وقال: لم نر أحدًا، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق، ونفذ طليحة ولم يحفل برجوعهما، فسار بعد ذلك نحوًا من بضعة عشر فرسخًا حتى انتهى إلى نهاوند، ودخل فى العجم وعلم من أخبارهم ما أحب ثم رجع إلى النعمان فأخبره بذلك، وأنه ليس بينه وبين نهاوند شىء يكرهه فسار النعمان على تعبئته.
وقد وضعت موقعة «نهاوند» كلمة النهاية فى رحلة «طليحة الأسدى»، إذ استشهد فيها، رحمه الله.