طليحة بن خويلد.. وتمرد «بنى أسد»
ثمة خيط يربط بين أغلب من يوصفون بـ«قادة الردة» الذين رفضوا دفع الصدقات لأبى بكر الصديق، مثلما كانوا يدفعونها للنبى، صلى الله عليه وسلم، يتمثل فى التمتع بوضعية سياسية خاصة بين أقوامهم، إذ كانوا أمراء على الناس، بالإضافة إلى ما اشتهروا به من فروسية. فمالك بن نويرة كان أميرًا من أمراء بنى تميم، ومسيلمة بن حبيب كان أميرًا على بنى حنيفة، والأسود العنسى كان فارسًا شهيرًا وأميرًا بارزًا من أمراء اليمن، وانحاز له فى التمرد على سلطان قريش العديد من الفرسان الصناديد، على رأسهم عمرو بن معديكرب، وتتكامل الصورة حين تتأمل شخصية الفارس العربى الشهير «طليحة الأسدى»، وهو واحد من أشهر قادة الردة فى زمان أبى بكر، وقد انضم إليه بنو أسد وطىء وبشر كثير أيضًا.
لم ينجح كتّاب التراث فى حسم التاريخ الذى ارتد فيه طليحة بن خويلد الأسدى، وهل كان ذلك أواخر حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، أم فى زمن أبى بكر الصديق، تمامًا مثلما عجزوا عن حسم هذه المسألة بالنسبة لكثير ممن وصفوهم بـ«قادة الردة». يحكى «ابن كثير» أن «طليحة الأسدى» شهد موقعة الخندق «سنة ٥ هجرية»، وكان يقاتل فيها إلى جوار المشركين، ثم يذكر أنه أسلم سنة ٩ هجرية، ويقرر «ابن كثير» أن «طليحة» ارتد بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع من ارتد أيام الصديق أبى بكر، وادّعى النبوة، ثم يشير إلى أن هناك من روى أنه ادّعى النبوة فى حياة رسول الله، والأرجح أن «طليحة» ارتد مثل غيره من كبار العرب بعد وفاة النبى.
عقب وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، أعلن «طليحة الأسدى» عن التمرد على سلطان قريش، ورفض مبايعة أبى بكر الصديق، وأخذ يحشد الناس من قومه «بنى أسد»، ومن غطفان، وانضم إليه بنو عبس وذبيان، وبعث إلى بنى جديلة والغوث وطىء يستدعيهم إليه، فبعثوا أقوامًا منهم بين أيديهم ليلحقوا على أثرهم سريعًا، تكاثر الأتباع والملتفون حول طليحة الأسدى، ولم يكن يمضى يوم إلا وينضم إليه أنصار جدد من القبائل العربية، الأمر الذى دفع أبا بكر الصديق إلى التحرك السريع، قبل أن ينضم المزيد من القبائل والبطون إلى طليحة. بعث «الصديق» عدى بن حاتم إلى «طىء» وقال له: «أدرك قومك حتى لا يلحقوا بطليحة فيكون دمارهم»، فذهب عدى- كما يحكى «ابن كثير»- إلى قومه بنى طىء، فأمرهم بأن يبايعوا الصديق، وأن يرجعوا إلى أمر الله، فقالوا: لا نبايع أبا الفضل أبدًا- يعنون أبا بكر رضى الله عنه- فقال: «والله ليأتينكم جنوده فلا يزالون يقاتلونكم، ولم يزل عدى بهم حتى لانوا». يحمل هذا الحوار الذى دار بين عدى بن حاتم وقومه من طىء دلالة مباشرة على أن حركة الردة التى تزعمها طليحة بن خويلد الأسدى كانت سياسية ولم تكن دينية، والدليل على ذلك أن «حاتمًا» لم يطلب من قومه دفع الصدقات، أو إنكار النبوة المدعاة لطليحة، بل نصحهم بمبايعة أبى بكر الصديق، وهى نصيحة سياسية بحتة، وقد جاءت فى لحظة كان أهل «طىء» ينوون فيها مبايعة «طليحة»- كما بايعه غيرهم من العرب- على مواجهة استفراد قريش بالأمر.
منذ اللحظة الأولى لوصول خبر التمرد الذى يقوده طليحة بن خويلد الأسدى إلى الخليفة أبى بكر الصديق، قرر توجيه جيش يقوده خالد بن الوليد إليه، فقد كان يعلم أبعاد هذا التمرد، والكم الكبير من العرب الذين التفوا حول من تولى كبره، فاستشعر بأن خطره يفوق غيره من قادة الردة، مثل مسيلمة والأسود العنسى وسجاح.. مناوشات عديدة حدثت بين جند أبى بكر الصديق وجنود طليحة، تمكن طلحة فى إحداها وشقيقه سلمة بن خويلد من قتل صحابيين جليلين، هما عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم، وذلك خلال استطلاعهما مضارب بنى أسد. لم تكن حرب «طليحة» ومن التف حوله من العرب بالأمر السهل على خالد بن الوليد، فقد كان الأول من صناديد العرب، وكبار فرسانهم، وله باع طويل فى الحروب. يقول «ابن كثير»: «وكان طليحة من الشجعان المذكورين والأبطال المشهورين، وكان يعد بألف فارس لشدته وشجاعته وبصره بالحرب». لك أن تتخيل قتال فارس وقائد بهذا الحجم وتلك القدرات كيف يكون. وفى محاولة لضرب الصف الملتئم حول «طليحة»، تحرك عدى بن حاتم لإثناء بعض الملتفين حول «طليحة» عن الاستمرار فى دعمه، فمكث ثلاثة أيام يراجع «طىء» الذين كانوا يخشون من انتقام «طليحة» إن انضموا إلى خالد بن الوليد، ونجح «عدى» فى مسعاه، وعاد إلى خالد ومعه ٥٠٠ فارس من طىء، وفعل الأمر نفسه مع بنى جديلة، وعاد إلى خالد منهم بألف فارس.
فى المقابل انضم عيينة بن حصن إلى «طليحة» ومعه ٧٠٠ فارس من بنى فزارة. وعيينة بن حصن من مسلمى الفتح، الذين آمنوا بعد فتح مكة، وحارب مع النبى فى حنين، ثم ارتد عن الإسلام، كما يحكى «ابن كثير»، وقال لقومه: «والله لنبى من بنى أسد أحب إلىّ من نبى من بنى هاشم، وقد مات محمد، وهذا طليحة فاتبعوه»، فوافق قومه بنو فزارة على ذلك. وكان انضمام «عيينة» إلى «طليحة» من العوامل التى قوت شوكة الأخير، وساعدته على الصمود بقوة فى المعركة التى دارت رحاها بينهما، المعركة التى سماها المؤرخون: «معركة بزاخة».