المشهد الأخير فى حياة «الفارس الحكيم»
انتهت حركة التمرد التى قادها الأسود العنسى فى اليمن، واستكملها- من بعده- قيس بن مكشوح، بالفشل الذريع، وتم القبض على «قيس» وذراعه اليمنى عمرو بن معدى كرب، وسيق الاثنان إلى أبى بكر الصديق. وقف الأسيران أمام الخليفة، نظر إليهما ثم عنفهما وأنبهما- كما يحكى «ابن كثير»- فاعتذرا إليه، فقبل منهما علانيتهما ووكّل سرائرهما إلى الله عز وجل، وأطلق سراحهما وردّهما إلى قومهما، ورجع عاملا رسول الله، اللذان كانا باليمن، إلى أماكنهما التى كانا عليها فى حياته، صلى الله عليه وسلم. يقول المؤرخون إن كلًا من «قيس وعمرو» عادا إلى الإسلام ثانية بعد أن ارتدا عنه على يد الأسود العنسى، والأكثر احتمالية أن ذلك كان الدخول الأول من جانب الاثنين فى الإسلام، وأن انحيازهما فيما سبق كان للانتماء القومى وحركة التمرد التى قادها «العنسى».
رغم أن السن كانت قد جرت بعمرو بن معدى كرب فى ذلك الوقت، فإن روح الفروسية، التى عاش بها العديد من العقود فى زمن الجاهلية، تفجرت فى الإسلام، وبات الرجل من أهم وأبرز فرسان المسلمين فى معاركهم الكبرى، خصوصًا المعارك التى خاضوها ضد الفرس، واستعاد فيها شبابه الأول، وأحيا بما صنعه فى أحداثها أمجاد فرسان العرب الأوائل.
اختاره سعد بن أبى وقاص فى معركة «القادسية» ضمن وفد أرسله للحديث إلى «رستم»، قائد الفرس، سألهم رستم: ما أقدمكم؟ فقالوا: جئنا لموعود الله إيانا أخذ بلادكم. لم يكن جيش الفرس حينها بالهين، بل كان جيشًا قويًا على مستوى العدد والعدة.
يقول «ابن كثير»: «كان رستم فى مائة ألف وعشرين ألفًا يتبعهم ثمانون ألفًا، وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلًا». ولعلك تعلم حجم الفزع الذى كانت تعيشه الخيول العربية حين ترى الفيلة، وكان ذلك يفت فى عضد الفرسان الذين يمتطونها. استمرت المعركة بين المسلمين والفرس عدة أيام، والفرس ثابتون فى المواجهة، فلما كان اليوم الرابع اشتبك الفريقان اشتباكًا شديدًا، وقاسى المسلمون من الفيلة بسبب نفرة الخيول العربية منها، وهنا ظهر دور الصناديد من فرسان المسلمين وعلى رأسهم عمرو بن معدى كرب، حين اتجهوا إلى إبادة الفيلة ومن عليها وقلعوا عيونها، وكان عمرو ذكيًا حين نصح رفاقه بضرب الفيلة فى خراطيمها لأن ذلك يضعفها.
يقول «ابن كثير»: «ويسمى اليوم الرابع من المعركة يوم القادسية وكان يوم الإثنين من المحرم سنة أربع عشرة هجرية». لم يقتصر دور عمرو بن معدى فى معركة القادسية على مجرد المشاركة فى ضرب الفيلة- مكمن قوة الفرس- أو قتل صناديدهم، بل تمدد إلى رفع الروح المعنوية للمسلمين، وحثهم على قتال عدوهم. فكان يمر على المهاجرين قائلًا: «يا معشر المهاجرين كونوا أُسودًا فإنما الفارسى تيس». ولا يخفى ما فى هذا الكلام من مبالغة ومحاولة شعوبية واضحة لسب الفرس انتصارًا للعرب، وهى محاولة تجدها متكررة عند العديد من المؤرخين ومن بينهم «ابن كثير».
وحينما نشبت معركة «نهاوند» كان عمرو بن معدى كرب على رأس الفرسان الذين تصدروا مشاهدها. وقد مثلت هذه المعركة استكمالًا لمعركة القادسية وشارك فيها كل من لم يشارك فى القادسية من الفرس، وبلغ عدد الجيش الفارسى ١٥٠ ألف مقاتل تحت قيادة أميرهم «الفيروزان»، واجههم المسلمون ببسالة، تحت قيادة «النعمان بن مقرن». كان الفرس من القوة بمكان فى هذه المعركة، وطال القتال بينهم وبين المسلمين دون أن يحسم الأمر لصالح طرف منهما، وحين احتار المسلمون فى أمرهم، استشار «النعمان» كبار قادته وفرسانه، ومنهم عمرو بن معدى، وقد قال للقائد حين طلب منه الرأى: «ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم»، كان رأى «عمرو» من الشجاعة بمكان، لكنه لم يعجب بعض الفرسان الذين رأوا أن الاستمرار فى القتال ليس لصالح المسلمين، فردوا عليه قائلين: «قالوا إنما تناطح بنا الجدران.. والجدران أعوان لهم علينا»، وقد انتهى الجدل إلى تبنى المجموع لرأى عمرو بن معدى، وتواصل القتال بين الطرفين، حتى نصر الله تعالى عباده المؤمنين. واستُشهد فى هذه المعركة النعمان بن مقرن، قائد المسلمين.
ظل عمرو بن معدى كرب يحمل سيفه ويقاتل حتى اللحظة الأخيرة من حياته، وقد تنوعت الروايات التى تصف المشهد الأخير فى حياته، فقيل إنه قتل يوم القادسية، وقيل مات فى معركة نهاوند، وقيل مات عطشًا فى بعض القرى يقال لها «روذة».. مات الفارس الحكيم الذى تكلم سيفه بالقوة، كما نطق لسانه بالحكمة، مات الرجل صاحب بيت الشعر الشهير الذى يقول: «إذا لم تستطع أمرًا فدعه... وجاوزه إلى ما تستطيع». وهو البيت الذى عرف السياسة على أنها فن الممكن قبل أن يولد هذا التعريف بمئات السنين. مات الرجل الذى روى حديثًا واحدًا فى التلبية- كما يقول «ابن كثير»- رواه شرحبيل بن القعقاع عنه، أنه كان يحكى: كنا نقول فى الجاهلية إذا لبينا: لبيك تعظيمًا إليك عذرًا. هذى زبيد قد أتتك قسرًا. يعدو بها مضمرات شزرًا. يقطعن خبتًا وجبالًا وعرًا. قد تركوا الأوثان خلوًا صفرًا. قال عمرو: فنحن نقول الآن ولله الحمد كما علمنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك.
لبّى الفارس الحكيم عمرو بن معدى يكرب نداء ربه عام ٢١ هجرية.