رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انقلاب الأمراء على «عبهلة»

انقلاب داخلى وقع ضد الأسود العنسى، بعد سيطرته على اليمن، الواضح أن عمرو بن معدى كان جزءًا منه، وقاده الأمراء الثلاثة الذين اعتمد عليهم «العنسى» فى حكم اليمن، بعد طرد الولاة المسلمين منها، وهم قيس بن مكشوح وفيروز الديلمى وداذويه، بالإضافة إلى قائد جنده. وقد بدأ الانقلاب ضد «العنسى» أول ما بدأ من جانب قائد جنده قيس بن عبد يغوث الذى غضب على «العنسى» واستخف به وهم بقتله، لكنه اكتفى بالانسحاب منه والانحياز إلى الولاة المسلمين، أما الأمراء الثلاثة فقد شرعوا فى الترتيب لاغتيال «العنسى» بالتنسيق مع زوجته «زاذ». 

يروى المؤرخون حكاية اغتيال «العنسى»، وكأن من قاموا بالاغتيال أشخاص هالهم «ردة» الأسود أو ادعاؤه النبوة، وحقيقة فإن الأمر لم يكن كذلك، فكبير هؤلاء الأمراء ومن رسم خطة اغتيال «العنسى» وهو قيس بن مكشوح لم يكن مسلمًا بالأصل أو مسلمًا مرتدًا، وقد حكيت لك كيف غضب على عمرو بن معدى حين علم بذهابه إلى النبى وإسلامه، وكيف أخذ يتوعده إن لم يترك هذا الدين. والأميران الآخران لم يكونا من صحابة النبى، صلى الله عليه وسلم، الذين ابتعثهم من المدينة لحكم اليمن، مثل معاذ بن جبل وأبوموسى الأشعرى، بل كانوا أمراء يمنيين أصلاء، ينتمون إلى ذات القومية التى تمرد من أجلها الأسود العنسى، وكانوا جزءًا من نخبة حكمه، وشركاء له فى إدارة الأمر داخل اليمن، ومواجهة محاولات المسلمين لإخضاعها لسلطانهم مرة أخرى. 

كانت الخطوة الأولى التى قام بها قيس بن مكشوح هى مقابلة زوجة الأسود العنسى «زاذ» تلك الحسناء المؤمنة، ابنة عم فيروز الديلمى. التقاها «قيس» وقال لها: «يا ابنة عمى قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك، قتل زوجك، وطأطأ فى قومك القتل، وفضح النساء فهل عندك ممالأة عليه؟ قالت: على أى أمر؟ قلت: إخراجه، قالت: أو قتله، قلت: أو قتله، قالت: نعم والله، ما خلق الله شخصًا هو أبغض إلى منه، فما يقوم لله على حق ولا ينتهى له عن حرمة، فإذا عزمتم أخبرونى أعلمكم». الواضح من هذا الحوار أن «زاذ» كانت تكره «العنسى» أشد الكراهية، لأنه قتل زوجها وأجبرها على الزواج منه، وقد كان هذا الأمر شائعًا فى ذلك الحين، وكانت ترغب فى الانتقام منه، ويبدو أن «قيسًا» كان يعلم ذلك، وعلى ثقة من أنها ستتعاون معه ومع باقى الأمراء فى الخطوة، لكن الملاحظ فى وصفها لزوجها أنها لم تنعته بالارتداد عن الإسلام أو ادعاء النبوة، وأنه كان مجرد رجل فاسق لا يقوم لله على حق ولا ينتهى عن حرمة. رواية زوجة «الأسود العنسى» التى ينقلها «ابن كثير» تتناقض مع ما يذكره المؤرخ حول الرجل وأنه ادعى النبوة، وذكر فى أكثر من موضع، وهو يحكى قصة اغتياله، أن شيطانه كان يأتيه ويخبره بما يخطط له الأمراء الثلاثة!، ولم يدر بخلد المؤرخ أن الرجل ربما يكون له عيون أو جواسيس على الأمراء ينقلون له أخبارهم.

يروى «ابن كثير» رواية طويلة عريضة حول الكيفية التى قتل بها الأمراء الثلاثة الأسود العنسى بمساعدة زوجته، والكيفية التى كان يقوم أو يتحرك بها بعد أن يسددوا له الطعنات، ويؤكد من جديد أن شيطانه كان يساعده على ذلك، حتى تمكنوا فى النهاية من قتله ليلًا. فلما كان الصباح قام قيس بن مكشوح ووقف على سور الحصن- كما يحكى «ابن كثير» فنادى بشعارهم «لم يذكر هذا الشعار» فاجتمع المسلمون والكافرون حول الحصن فنادى أشهد أن محمدًا رسول الله وأن عبهلة- يقصد الأسود العنسى- كذاب، وألقى إليهم رأسه، فانهزم أصحابه وتبعهم الناس يأخذونهم ويرصدونهم فى كل طريق يأسرونهم وظهر الإسلام وأهله وتراجع نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم.

يذكر «ابن كثير» أن «ابن مكشوح» هتف بشهادة أن محمدًا رسول الله، دون أن يذكر لنا متى أسلم؟ ويبدو أنه نسى أن آخر معلومة ذكرها عنه كانت تقول إنه رفض دخول عمرو بن معدى فى الإسلام وهدده وتوعده. كما أغفل وهو يتحدث عن عودة العمال المسلمين إلى أعمالهم أن اليمن بعد الأسود العنسى وقع فى حجر الأمراء الثلاثة: قيس والديلمى وداوذيه.

مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الأثناء، فلما بلغ أهل اليمن ذلك ازداد بعضهم فيما كانوا فيه من الحيرة، وبدأ قيس بن مكشوح يفكر فى الوثوب على الحكم، والمضحك أن «ابن كثير»، الذى كان يتحدث عنه كمسلم يشهد أن محمدًا رسول الله، ذكر أن أول خطوة خطاها الرجل على هذا الطريق تمثلت فى الارتداد عن الإسلام! وأن عوام أهل اليمن تابعوه على ذلك، وبدأ أبوبكر يخطط للقضاء عليه من خلال دعم الأميرين الآخرين: فيروز الديلمى وذادويه. فى المقابل بدأ «ابن مكشوح» يخطط لقتل المنافسين الاثنين، فقدر على «داذويه» حين دعاه إلى مأدبة وتمكن من قتله، واحترز منه فيروز الديلمى، حين كان فى طريقه إلى مأدبة أخرى دعاه إليها، فسمع وهو بالطريق امرأة تقول لأخرى: وهذا أيضا والله مقتول كما قتل صاحبه، فرجع من الطريق، وأخبر أصحابه بقتل داذويه، وخرج إلى أخواله فتحصن عندهم، وأخذ يجمع المقاتلين من حوله، فخرج لملاقاة قيس فى خلق كثير، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فهُزم قيس وجنده من العوام وبقية جند الأسود العنسى.

كان عمرو بن معدى قد انحاز بشكل كامل إلى قيس بن مكشوح وقاتل إلى جواره، ما يدلك على عدم منطقية ما ذكره «ابن كثير» من أن «عمرو» اختلف مع قيس حول مسألة الإسلام، وأن الأول دخل فى الإسلام رغمًا عن قيس، وأن الأخير توعده. فواقع الحال يقول إن عمرو بن معدى لم يسلم من الأساس وإنه ظل على شركه، ولما عاد إلى اليمن- بعد لقاء النبى- انضم إلى الحركة القومية التى يقودها العنسى، وبعد مقتل الأخير على يد قيس بن مكشوح انضم إليه وقاتل إلى جواره ضد وجود العمال المسلمين فى اليمن، خصوصًا داخل صنعاء ونجران، وانتهى المشهد بهزيمة منكرة لدعاة القومية اليمنية، وتم القبض على «ابن مكشوح» و«ابن معدى» وسيق الاثنان إلى أبى بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.