رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حركة قومية يقودها «العنسى»

حين عاد عمرو بن معدى كرب إلى اليمن بعد لقاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، «سنة ١٠ هجرية على وجه التقريب»، وما قيل عن إسلامه، كانت الأجواء فى هذا البلد ملبدة بالغيوم، الكثير من المدن الكبرى باليمن كانت تحت سيطرة المسلمين بعد أن آمن أهلها، مثل مدينة نجران ومدينة صنعاء، فى حين كانت الجيوب الداخلية على الأطراف على وثنيتها، وهى الجيوب التى كان من بينها «بنو زبيد»، قوم عمرو بن معدى، الذين كان يتزعمهم قيس بن مكشوح، وقد حكيت لك كيف غضب الزعيم على «عمرو» حين علم بلقائه النبى ودخوله فى الإسلام، لكن «قيسًا» هذا لم يكن من القوة بحيث يستطيع السيطرة على واحد من كبار قومه، فما بالك بمواجهة المسلمين المسيطرين على المدن الكبرى باليمن. الشخص الوحيد الذى كان بمقدوره ذلك هو عبهلة بن كعب بن غوث، الذى لقب بـ«الأسود العنسى»، وكان يعيش فى بلد اسمه: «كهف حنان». 

أهل اليمن حينذاك كانوا يعرفون «عبهلة» باسمه، ولا يشير أى من المؤرخين إلى من لقّبه بلقبه الشهير «الأسود العنسى»، وقد قاد انقلابًا عاتيًا على المسلمين الذين كانوا يسيطرون على العديد من مدن اليمن أواخر عهد النبى، صلى الله عليه وسلم، بالدنيا. بدأ «العنسى» انقلابه الخطير بعدة رسائل بعث بها- من «كهف حنان»- إلى عمال النبى، صلى الله عليه وسلم، على مدن اليمن، يقول لهم فيها، كما يحكى «ابن كثير»: «أيها المتمردون علينا.. أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه». المتأمل لهذه الرسالة لا يشتم فيها رائحة الدين أو الحديث عن الإسلام، بل هى رسالة «سياسية- عسكرية» بحتة، يطلب فيها «العنسى» من عمال المسلمين على المدن الخضوع السياسى له، على أن يحتفظوا بمواقعهم الوظيفية. لم يستجب المسلمون له بطبيعة الحال، فما كان منه إلا أن تحرك ومن خلفه ٧٠٠ مقاتل إلى المدن الكبرى باليمن، وبدأ بـ«نجران» فأخذها بعد ١٠ ليالٍ من مخرجه، ثم قصد إلى «صنعاء» وكسر مقاتليها، واستولى عليها بعد ٢٥ ليلة من مخرجه. فرّ عمال المسلمين، وأشهرهم معاذ بن جبل وأبوموسى الأشعرى، اللذان فرّا إلى حضرموت، وعاد آخرون، مثل عمر بن حرام وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة، وتمكن الأسود العنسى من السيطرة على اليمن بشكل كامل.

والسؤال: أين كان عمرو بن معدى كرب من كل هذا؟ حتى تلك اللحظة لم يكن موقف «عمرو» من الإسلام واضحًا: هل أسلم وارتد، أم لم يسلم من الأصل، أم أسلم لكنه انضم إلى الحركة السياسية التى قادها الأسود العنسى؟ ظنى أن الاحتمال الثالث هو الأرجح، فقد أسلم عمرو بن معدى كرب، لكنه شارك فى التمرد «القومى» الذى قاده الأسود العنسى. فالمؤرخون لا يذكرون دليلًا واضحًا على ارتداد الأسود العنسى، إنهم يصفونه بالمرتد عن الإسلام وفقط، ويذهبون إلى أنه تمكن من خداع العوام وخفاف العقول بكلامه الذى لم يذكروا لنا شيئًا منه، ولم يفسروا لنا فى المقابل كيف قاتل تحت رايته فارس بحكمة وحجم عمرو بن معدى؟ وهل كان من وجهة نظرهم من العوام خفاف العقول؟. والعجيب أن مؤرخًا مثل «ابن كثير» يذكر أن الأسود العنسى تزوج- خلال فترة تمرده- من امرأة اسمها «آزاد» كانت، كما يصفها «ابن كثير»: «امرأة حسناء جميلة، وهى مع ذلك مؤمنة بالله ورسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، ومن الصالحات». فماذا كانت حاجة «العنسى» المرتد إلى امرأة مؤمنة صالحة؟ وكانت «آزاد» ابنة عم فيروز الديلمى، أحد الأمراء المشهورين فى اليمن، ويتمتع بمكانة تماثل مكانة «قيس بن مكشوح» سيد «بنى زبيد» الذين كان منهم عمرو بن معدى.

اتجه الأسود العنسى إلى بناء جهاز حكمه، فجعل من عمرو بن معدى كرب خليفة له على بلدة «مذحج»، وفيها قومه من «بنى زبيد»، وأسند أمر الجند إلى قيس بن عبد يغوث، واستعان بالأمير فيروز الديلمى، والأمير داذويه، ضمن جهاز حكمه، وتمكن بهذه التركيبة من إحكام قبضته على اليمن، أواخر حياة النبى، صلى الله عليه وسلم. ويشير «ابن كثير» إلى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، بعث إلى عمال المسلمين على اليمن يطلب منهم مصاولة «مواجهة» الأسود العنسى، ولو صحت هذه الرواية فهى تعد تأكيدًا على أن حركة «العنسى» لم تكن أكثر من حركة سياسية، حاول فيها التمرد على سلطة الدولة الإسلامية الوليدة، وهى بالتالى لا تعبر عن حركة ارتداد عن الإسلام، لأن النبى، صلى الله عليه وسلم، لم يجبر أحدًا على الدخول فى الإسلام: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». فقد كان هناك وعى عام داخل الجزيرة العربية بأن الحركة التى يقودها «العنسى» هى مجرد حركة قومية يتصدرها رجل طامح إلى حكم اليمن ككل، والدليل على ذلك أن نهايتها جاءت من داخلها، أو بعبارة أخرى جاءت على أيدى أشخاص من داخل تركيبة الحكم التى شكلها «العنسى» بعد أن سيطر على اليمن، ولم تأتِ على أيدى كبار المسلمين الذين ظلوا بهذا البلد، مثل معاذ بن جبل وأبوموسى الأشعرى اللذين فرّا إلى حضرموت، بل تمت على يد مجموعة الأمراء الذين كانوا يشكلون جزءًا من مركب الحكم القومى الذى قاد اليمن بعد سيطرة «العنسى» عليه.