عمرو بن معدى.. فارس «الردة والعودة»
نحن أمام رجل يمثل حالة استثنائية فى تاريخ المسلمين الأوائل الذين آمنوا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، رجل كان له تاريخه قبل الإسلام، وتاريخه بعد أن أسلم، رجل يقال إنه أسلم ثم ارتد ثم أسلم، فى قصة نادرة تثبت، بما لا يدع مجالًا للشك، كيف أعمل المسلمون الأوائل مبدأ «لا إكراه فى الدين»، رجل تشم وأنت تتبع رحلته رائحة فرسان العرب الأوائل، الذين مزجوا بين القوة والحكمة، ظهرت القوة فى المشاهد التى كان يرفع فيها سيفه دفاعًا عما يؤمن به، وظهرت الحكمة فى المواضع التى عبّر فيها عن نظرته للحياة بأبيات شعرية استطاعت أن تعبر القرون حتى وصلت إلينا وعاشت بيننا، رجل شاء الله أن يعيش أكثر من قرن، فمكث فوق ظهر الحياة أكثر من ١٠٠ سنة، فى بعض التقديرات.. إنه عمرو بن معدى كرب.
اختلف المؤرخون فى اسم هذا الفارس الكبير، فالبعض كتبه عمرو «بن معد يكرب»، والبعض كتبه «بن معدى كرب»، والثانى فى الأغلب هو الأصح، وكانت كنيته «أبا ثور»، وهو من «بنى زبيد» الذين عاشوا ببلدة اسمها «مذحج» باليمن، لذلك كان يلقب فى أحيان بـ«الزبيدى». شهرة «عمرو» كانت قديمة سبقت إسلامه بسنين، فقد كان معروفًا على مستوى الجزيرة العربية، بما اتصف به من شجاعة وقوة، جعلته يرتفع فى المقام إلى أن يصنف ضمن «أقوياء العرب»، الذين اشتهروا بالقوة والموهبة الشعرية الفذة، مثل عنترة بن شداد، ودريد بن الصمة، وتأبط شرًا، وغيرهم.
يصف «ابن كثير» صاحب البداية والنهاية «عمرو بن معدى» قائلًا: «أحد الفرسان المشاهير الأبطال والشجعان المذاكير». هذا الوصف صاحب عمرو بن معدى طيلة حياته، فمنذ شبابه ورجولته فى الجاهلية عاش فارسًا مغوارًا، وكان أشهر اسم بين قومه «بنو زبيد». يشير «محمود حسن أبوناجى» صاحب كتاب «شعراء العرب الفرسان فى الجاهلية وصدر الإسلام» إلى واقعة كانت سببًا فى شهرة «عمرو» فى الجاهلية تتعلق بحرب نشبت بين قومه «بنى زبيد» وخثعم، وتمكنت خثعم من قهر بنى زبيد فى أولها، فهرول إليهم «عمرو» ولقى أباه وهو فى طريقه فطلب منه النزول عن فرسه، ثم ركبه وانطلق كالسهم يشق صفوف «خثعم» ويكر عليهم حتى قلب وجه المعركة وركبها «بنو زبيد». ومنذ ذلك اليوم اشتهر هذا اليمنى الصنديد بـ«فارس بنى زبيد»، تمامًا مثلما كان عنترة فارس «عبس»، ودريد بن الصمة فارس «هوازن» وهكذا. لم يدرك بعض هؤلاء الفرسان الإسلام، مثل عنترة، لكن «دريد» عاصر النبى، صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم، بل وشارك مشاركة معنوية فى معركة «حنين» التى خاضتها «هوازن» ضد النبى، بعد فتح مكة، أما «عمرو» فقد كانت له مع الإسلام قصة شديدة التعقيد، حيث قيل إنه أسلم، ثم ارتد، ثم أسلم من جديد، وحينًا حارب ضد المسلمين ثم معهم.
ما يقرب من ٢١ سنة كاملة كانت قد مرت على بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم، مؤكد أن عمرو بن معدى كان يسمع فيها عن محمد ودعوته، شأنه فى ذلك شأن كبار أهل اليمن فى ذلك الحين، لكنه لم يفكر فى الإسلام إلا فى سنة ٩ هجرية أو سنة ١٠ كما يذهب «ابن كثير» فى «البداية والنهاية». وقد روى فى موضوع إسلامه رواية عجيبة، يذكر فيها «ابن كثير» أن «عمرو» كان يسمع مثل غيره من كبار أهل اليمن وزعمائها عن ظهور نبى فى مكة اسمه محمد، فذهب ذات يوم إلى قيس بن مكشوح المرادى، زعيم بنى زبيد، فقال له: «يا قيس إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلًا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقال إنه نبى، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيًا كما تقول فإنه لن يخفى علينا إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه». رأى «عمرو» ينطق بالحكمة كما هو واضح، فقد أراد استكشاف أمر النبى فإن تيقن من نبوته تبعه، وإن كان غير ذلك أدرك أمره وحدد موقفه منه، وقد رفض «قيس» كلامه برمته، بل وسخر منه وسفهه، فما كان من «عمرو»- كما يحكى ابن كثير- إلا أن ذهب بمفرده إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يديه ثم عاد إلى قومه، وحين علم قيس بن مكشوح بالأمر أخذ يتوعده، وقال: «خالفنى وترك أمرى ورأيى»، وكتب «عمرو» فى الرد عليه شعرًا يتوعده فيه هو الآخر. وبالتواريخ نستطيع أن نقول إن عمرو أسلم قبل عدة شهور من وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، ويذهب المؤرخون إلى أنه ارتد عن الإسلام، بمجرد إعلان خبر وفاة الرسول، مع المرتدين من أهل اليمن تحت راية الأسود العنسى.
والأسود العنسى كما تعلم واحد ممن يصفهم المؤرخون بمُدّعى النبوة ممن ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وإن كان «العنسى» يختلف عنهم فى أن حركة تمرده بدأت أواخر عصر النبى، أى خلال الفترة التى أسلم فيها «عمرو بن معدى»، ويؤكد المؤرخون أنه ارتد عن الإسلام وانضم إلى حركة «العنسى»، ثم تاب الله عليه بعد ذلك وعاد إلى الدين، وأبلى بلاءً حسنًا فى سبيله. والأرجح أن مسألة إسلام ثم ارتداد ثم إسلام «عمرو بن معدى» من الروايات التى تستحق المراجعة، بل إن الحركة التى انضوى «عمرو» تحت لوائها، والمتمثلة فى حركة ارتداد الأسود العنسى عن الدين، بحاجة إلى إعادة نظر وتأمل هى الأخرى.