عهد المدينة.. وإهانة «بنى قينقاع»
الخطوة الأولى التى اتخذها النبى «صلى الله عليه وسلم» بعد الهجرة إلى المدينة كانت من الذكاء بمكان، فقد سعى مباشرة إلى توحيد صف الأوس والخزرج، ونزع فتيل العداوات التى كان يشعلها اليهود بينهم باستمرار، حتى ينشغلوا عنهم بحرب بعضهم البعض، ثم آخى بعدها بين المهاجرين والأنصار، وصار الجميع لُحمة واحدة وجماعة مؤمنة، تعمل كالبنيان المرصوص الذى يشد بعضه بعضًا. هذه الخطوة كانت ضرورية للغاية لمواجهة الاستحقاقات القادمة، والتى كان النبى «صلى الله عليه وسلم» والأنصار يعلمانها جيدًا، سواء على مستوى مواجهة عرب مكة، أو مواجهة اليهود المتربصين بالوافد الجديد، الذى تمكن من جمع الكيان البشرى «اليثربى»، الذى اجتهد اليهود عقودًا طويلة فى تشتيته.
وثّق النبى «صلى الله عليه وسلم» عهد الإخاء بين المهاجرين والأنصار فى «كتاب» يتعهدون فيه: «أن يعقلوا معاقلهم وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين»، وجاء فى الكتاب أيضًا: «ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم». اشتمل الكتاب على تعاليم وبنود عديدة أسست لما يصفه البعض بـ«دستور المدينة»، الذى يحدد أسس العلاقة بين المؤمنين، والكيفية التى ينظمون بها علاقاتهم مع الآخرين. واشتمل الدستور أيضًا على مجموعة من النقاط التى تحدد علاقة المسلمين باليهود، من بينها حرية الأديان: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم» وأن «بطانة يهود كأنفسهم»، و«أنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد»، وأن «على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه «ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله».
لم يترك النبى شيئًا للظروف، لقد كان «صلى الله عليه وسلم» يؤسس لمجتمع جديد، ومجموعة بشرية ستقوم بمهمة تغير وجه التاريخ، لذا لم يترك شيئًا للاجتهاد الظرفى، بل وضع معايير واضحة تحكم العلاقة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وبينهم وبين يهود يثرب، وكذا الكيفية التى تدار بها العلاقات مع الخارج من جانب الطرفين، وقد ظهر أثر هذه الترتيبات بعد عام واحد من الهجرة إلى المدينة، وتحديدًا فى ١٧ رمضان من سنة ٢ هجرية، حين تواجه المؤمنون مع عرب مكة فى موقعة بدر، وتمكنوا من هزيمتهم هزيمة ساحقة، وقتلوا صناديد قريش، مثل أمية بن خلف وعمرو بن هشام وغيرهما، وليس هناك خلاف أن هذا الانتصار السريع والحاسم أرعب يهود المدينة، فبدأوا -كما اعتادوا- فى التخطيط بليل لمواجهة المسلمين، قبل أن يستفحل خطرهم أكثر من ذلك، فكان ما كان مع يهود «بنى قينقاع». لم يكن قد مضى على انتصار المسلمين على عرب مكة فى «بدر» أكثر من شهر، حين تحرك ضدهم يهود بنى قينقاع، منتصف شوال من سنة ٢ هجرية. تحرك بدا مبررًا فى ظل النصر السريع والحاسم الذى حققه المسلمون على صناديد قريش، فقد بدأ القلق يعصف باليهود؛ لأنهم توقعوا تحركًا تاليًا من جانب النبى «صلى الله عليه وسلم» ضدهم، وربما داخلهم أيضًا شعور بأن المسلمين منهكون بعد معركة بدر، وأن التحرك ضدهم فى هذه اللحظة هو الأوجب، وقد يؤدى إلى استئصال شأفتهم من المدينة.
انفجر الموقف بين المسلمين واليهود فى المدينة بحادثة شهدتها «سوق بنى قينقاع»، حين ذهبت إليه سيدة مسلمة لتبيع الحليب هناك، وبعد أن فرغت من مهمتها عرجت على صائغ يهودى بالسوق تشترى منه، فأخذ اليهود يداعبونها ويطلبون منها كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودى فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود؛ فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع، وفى تقديرى أن هذه الواقعة لا تنهض وحدها كسبب لاندلاع الحرب بين المسلمين واليهود، لكن يمكن القول إنها مثلت القشة التى قصمت ظهر البعير، فقد بدأ غدر اليهود فى الظهور مباشرة بعد انتصار بدر، وحذرهم النبى من أى تحرك غير محسوب، وضرب لهم مثلًا بقريش وما حل بها، فما كان منهم إلا أن ردوا عليه بمنتهى الغرور: «يا محمد إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس».
عند هذا الحد كان التحرك ضرورة، وهو ما قرره النبى «صلى الله عليه وسلم»، فجمع المسلمين وانطلق إلى حى بنى قينقاع وضرب حصارًا عليهم، حتى استسلموا ونزلوا على حكمه. يقول بعض المؤرخين أن عدد المقاتلين اليهود فى معركة بنى قينقاع بلغ ٧٠٠ مقاتل، وهو عدد كبير إذا قيس بعدد المقاتلين من المسلمين العائدين توًا من بدر، ولعلك تذكر أن عدد المسلمين المقاتلين فى هذه المعركة لم يزد على ٣١٣ مقاتلًا. خلال هذه الأحداث ظهرت شخصية عبدالله بن أبى بن سلول، زعيم المنافقين فى المدينة المنورة على المسرح، إذ ظهر له دور مهم فى الدفاع عن يهود بنى قينقاع، وقد أخذ يطارد النبى بعد أن استسلم له الحى، يطلب منه الإحسان إلى مواليه، وألا يستأصل شأفتهم، وقد أغضب هذا الفعل الرسول «صلى الله عليه وسلم» والصحابة، وكانت هذه الواقعة كاشفة بصورة كبيرة عن التركيبة النفسية لهذا الزعيم الخزرجى الكبير وموقفه الحقيقى من النبى والإسلام، وأظهرت أن «ابن سلول» أسلم بلسانه ولم يؤمن قلبه، وأنه منافق، بل زعيم للمنافقين الذين شكلوا فيما بينهم طابورًا خامسًا كان يعمل لحساب أعداء المسلمين، وعلى رأسهم اليهود.