رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ابن سلول».. و«ابن الأشرف»

شخصيتان شهيرتان كان لهما حضور واضح فى الصراع الذى نشب بين عرب المدينة المنورة واليهود فى عصر النبى، صلى الله عليه وسلم.. الأولى هى شخصية عبدالله بن أبى بن سلول، والثانية شخصية كعب بن الأشرف.

ظهرت شخصية «ابن سلول» على مسرح الأحداث خلال موقعة «بنى قينقاع»، فبعد أن تمكن النبى من يهود هذا الحى، أخذ «ابن سلول» يطارد النبى ويطلب منه أن يحسن فى مواليه، قائلًا: «أحسن فى موالى»، وأمسكه من درعه، وغضب النبى غضبًا شديدًا منه، وقال له: ويحك أرسلنى. قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن فى موالى، أربعمائة حاسر وثلثمائة دراع قد منعونى من الأحمر والأسود تحصدهم فى غداة واحدة، إنى والله امرؤ أخشى الدوائر، فقد كانت هناك معاهدة صداقة وتحالف تربط بين «ابن سلول»، زعيم الخزرج، ويهود بنى قينقاع، وكان اليهود يعينون الزعيم على أعدائه ويدعمونه ويقاتلون- فى أحوال- إلى جواره، كما يظهر من الحوار السابق، لذلك فقد أبى أن يقضى عليهم النبى فى ضربة واحدة، وقال له إنه يخشى تقلبات الأيام، وأنه قد يحتاج إليهم فى لحظة لا يجدهم فيها، ولا يجد من يناصره على أعدائه. كانت حسبة «ابن سلول» حسبة سياسية بحتة، فاليهود يدعمون زعامته، فى حين أنه بين المسلمين مجرد واحد من الناس، تحت قيادة النبى، صلى الله عليه وسلم، أما محمد فقد كان يرى أن ثمة ضرورة فى التخلص من هذا التجمع القينقاعى، الذى بات يشكل خنجرًا فى ظهره، وهدده رسميًا بقتال حقيقى، غير ما رآه مع أهل مكة الذين لا يجيدون الحروب. كان «ابن سلول» يعانى منذ أن قدم المسلمون المدينة، فقد كان صاحب منزلة كبرى بين قومه، وفى طريقه إلى أن يُنصّب زعيمًا على عرب يثرب كلهم بصورة رسمية، لكن حال دون ذلك مجىء النبى. ويحتار المحلل وهو يتابع بعض مواقف «ابن سلول» مع النبى، وتراوحها بين السلبية والإيجابية، فالموقف السلبى الذى بدا عليه بعد تمكن النبى من يهود «بنى قينقاع» ودفاعه عنهم، قابله موقف آخر إيجابى، فحين كان المسلمون يستعدون لحرب عرب مكة فى غزوة «أحد» اقترح النبى، صلى الله عليه وسلم، البقاء فى المدينة وعدم الخروج منها، وكان رأى عبدالله بن أبى بن سلول مع رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى ألا يخرج إليهم، وأخلص النصيحة للنبى حين قال له: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه. فى كل الأحوال بدا «ابن سلول» رجل سياسة، يرجح معادلات التوازن التى يؤمن بها على ما عداها، أخلص النصيحة للنبى حين كانت مصلحة المدينة فى ذلك، إذ كان يرى نفسه زعيمًا لها، ولا يرضى بحال بهزيمتها أمام المكيين، ودافع عن اليهود الذين ارتبط معهم بمعاهدة صداقة وتحالف، إذ وجد مصلحته فى استمرارهم، لكن طبقًا لحسبة سياسية خاطئة، توقع من خلالها أن محمدًا وأصحابه سوف يهزمون أمام عرب مكة، وأن تحالفه مع اليهود هو الباقى. الخطيئة الكبرى التى وقع فيها «ابن سلول» تمثلت فى موقفه بعد هزيمة المسلمين فى «أحد»، فقد أخذ يردد بعد أن تيقن من انتصار قريش: «والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل»، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، احللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم»، فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فغضب النبى لما سمعه، وغضب المسلمون وقرروا طرد «ابن سلول» من المدينة، ولم ينقذه من ذلك إلا ما قاله أحدهم للنبى: «يا رسول الله ارفق به، لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكًا». لقد أجاد «ابن سلول» اللعبة نفسها التى أجادها اليهود. يحكى «ابن كثير» أن يهودًا قالت لما رأت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتزوج النساء: انظروا إلى هذا الذى لا يشبع من الطعام ولا والله ما له همة إلا إلى النساء، حسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك، فقالوا: لو كان نبيًا ما رغب فى النساء، وكان أشدهم فى ذلك حيى بن أخطب، فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه، صلوات الله عليه وسلامه. لم يكن حيى بن أخطب وحده من يسىء إلى النبى بمثل هذا الكلام الساذج، بل وظف اليهود أيضًا فى ذلك إحدى آلاتهم الإعلامية ذائعة الصيت فى ذلك الزمان، والتى كان يجسدها الشعراء، ومنهم كعب بن الأشرف. اشتعل كعب بالغضب الممزوج بالعجب، حين سمع أن المسلمين انتصروا على عرب مكة فى موقعة «بدر»، أخذ يهتف: «بطن الأرض خير من ظهرها»، طار إلى مكة وهو يشعر بمنتهى الألم، وجلس إلى كبارها يسألهم ويستوثق منهم، ولما تأكد من الخبر أخذ يرثى قتلى قريش، ويحرض بالشعر على الثأر لهم، وأخذ يسب المسلمين ويشبب بنسائهم، ولم يكتف بذلك، بل شرع فى هجاء النبى بصورة أغضبته، صلى الله عليه وسلم. يقول «ابن كثير»: كان كعب بن الأشرف أحد بنى النضير، وقد آذى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالهجاء، وركب إلى قريش فاستغواهم، وقال له أبوسفيان وهو بمكة: أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه، وأينا أهدى فى رأيك وأقرب إلى الحق؟ إنا نطعم الجزور الكوماء، ونسقى اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال، فقال له كعب بن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلًا، وفيهما نزل قول الله تعالى: «ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا». أمام هذه المحاولة الدءوبة والممنهجة للاغتيال المعنوى للمسلمين وللإسلام ونبى الإسلام، تحرك المسلمون ضد من لم يتق الله فيهم، بدأت مجموعة من الصحابة فى وضع خطة محكمة لاغتيال كعب بن الأشرف، وتم استدراجه وقتله، وهو الذى عاش يحرض على قتل المسلمين. واقعة حيى بن أخطب وافتراؤه بالقول على النبى، وواقعة كعب بن الأشرف، الذى كذب على رسول الله بالشعر، تؤشران إلى أن حرب اليهود لا تأخذ شكل المواجهات الحربية وفقط، بل تتنوع أدواتها، لتخلط ما بين الخشن والناعم، يشهد على ذلك محاولاتهم الممنهجة للاغتيال المعنوى، التى تعود بجذورها إلى عصر النبى، صلى الله عليه وسلم.