رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ردة عن الدين.. أم ردة عن الدولة؟

المراجع لحروب الردة وما كان من مدعى النبوة، وعلى رأسهم سيدة بنى تغلب الحديدية: «سجاح بنت الحارث»، لا يستطيع أن يجيب بسهولة عن السؤال الذى يقول: هل كانت ردة بعض القبائل العربية، بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، ردة عن الدين أم ردة عن الدولة التى تحكمها قريش؟ موضوع الخضوع لقريش والاستسلام لمسألة استحواذ هذه القبيلة على السلطة كان حاضرًا بقوة فى الجدل الذى نشب بين زعامات القبائل العربية والخليفة أبى بكر الصديق حول الصدقات التى كان يتم دفعها للنبى، والتى صمم أبوبكر على ألا يمنع العرب منها أى شىء، حتى ولو كان عقال بعير يؤدونه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فاختلاف «بنى تميم»، الذين انحاز أغلبهم إلى سجاح فى تمردها على خلافة أبى بكر، كان الأصل فيه هو الصدقات، فقد أصر البعض على مواصلة دفعها لأبى بكر، وقال آخرون إنهم كانوا يؤدونها إلى مقام النبى على وجه خاص، إعمالًا لقوله تعالى: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم».

تمردت «سجاح» على سلطان قريش، ورفضت دفع الصدقات مع قومها من «بنى تغلب»، وانضم إليها الكثيرون من «بنى تميم»، وكونت من أولئك وهؤلاء جيشًا كبيرًا، قررت الزحف به أولًا نحو مسيلمة بن حبيب، أحد مدعى النبوة وقائد «بنى حنيفة» فى التمرد على سلطان قريش. كلا الطرفين «سجاح ومسيلمة» كان يعلم أن أحدهما لا يستطيع أن يقضى بشكل كامل على الآخر، لذا فقد آثرا الصلح، وتوحيد قدراتهما فى مواجهة سلطان قريش، كانت هذه القضية أكثر وضوحًا فى مخيلة مسيلمة الحنفى، وخطابه حولها بدا أكثر تماسكًا، فقد كان يردد أنه يؤمن بمبدأ المشاركة، ويرفض قاعدة المغالبة والاستحواذ التى تتبناها قريش. وتتابع الأحداث يشير إلى أن مسيلمة كان يدرك- بشكل مبكر- أن قريشًا سوف تستأثر بالأمر، بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وربما فسر لك ذلك الرسالة العجيبة التى أرسل بها إلى النبى سنة ١٠ هجرية-أى قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بعام- وكتب فيها للنبى: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك.. أما بعد فإنى قد أشركت فى الأمر معك، فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض»، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد.. فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».

الخلط بين فكرة الدين والسياسة واضح كل الوضوح فى الكلام الذى ينقله المؤرخون عن «مسيلمة»، فقد أشاروا إلى أنه ادعى النبوة، ونقلوا أنه وصف نفسه بـ«رسول الله»، وهو وصف يحمل هرطقة دينية واضحة، لكن الكلام الذى قاله مسيلمة بعد ذلك يدلل على أن قضيته كانت سياسية، وأنه أراد مشاركة قريش فى الأمر «مناصفة»، وقد كان من الطبيعى أن يرد عليه محمد رسول الله، الذى جاء بوحى السماء بهذا الرد الذى ينحى السياسة جانبًا ويستحضر قيم الدين ويقول له: «أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين». الكثير من الأحداث التى تفاعلت خلال فترة الردة يشير إلى أن قضية المرتدين كانت سياسة أكثر منها دينًا، والدليل على ذلك الأحاديث التى تجدها حاضرة فى كتب التراث حول ترتيب المرتدين لطقوس الإسلام، مثل الصلاة والأذان وغير ذلك. يقول «ابن كثير»: «واسم مؤذن سجاح زهير بن عمرو، وقيل جنبة بن طارق، ويقال إن شبث بن ربعى أذن لها أيضًا».. ويقول: «وكان مؤذن مسيلمة يقال له حجير»، وكان هناك أيضًا التزام- كما تعلم- من جانب المرتدين بالصلاة، والدليل على ذلك المقولة الشهيرة التى قالها أبوبكر وهو يقرر قتالهم: «والله لأقاتلن من يفرق بين الصلاة والزكاة».

لم يجد مسيلمة بدًا من مراسلة سجاح وإقناعها باتفاقهما على رفض مبدأ «احتكار قريش السلطة»، وحق القبائل العربية الأخرى فى المشاركة فيها. فبعث إليها- كما يحكى «ابن كثير»- يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذى كان لقريش لو عدلت، واقترح عليها أن يجتمع بها فى طائفة من قومه، فركب إليها فى أربعين من أنصاره، وجاء إليها فاجتمعا فى خيمة، فلما خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض وقبلت ذلك، أخذ مسيلمة يسجع ويقول: «سمع الله لمن سمع. وأطمعه بالخير إذا طمع. ولا يزال أمره فى كل ما يسر مجتمع. رآكم ربكم فحياكم. ومن وحشته أخلاكم. ويوم دينه أنجاكم. فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار. لا أشقياء ولا فجار. يقومون الليل ويصومون النهار. لربكم الجبار. رب الغيوم والأمطار»، ورغم ما فى الكلام الذى ردده مسيلمة من هذيان، ومحاولة ساذجة لمحاكاة القرآن الكريم، فإنه يؤشر إلى ما كان عليه من وصفهم كتاب التراث بالمرتدين من التزام بالصلاة والصيام والقيام.

توافق «مسيلمة» مع «سجاح» على مواجهة قريش، وردها عن احتكار السلطة والسلطان فى جزيرة العرب، ولكى يوثق الرباط بينهما عرض عليها الزواج، وقال لها: «هل لك أن أتزوجك وآكل بقومى وقومك العرب؟ قالت: نعم»، وبالفعل تزوج الاثنان الزواج المتعارف عليه فى زمانهما، ورغم ذلك تجد «ابن كثير» يقول: «وله معها- يقصد مسيلمة- أخبار فاحشة»، وتحتار كيف توصف العلاقة الزوجية التى شرعها الله بالفحش من جانب مؤرخ بحجم «ابن كثير»؟!