سر الهاربة من «حديقة الموت»
تزوج مسيلمة بن حبيب الحنفى من سجاح بنت الحارث التغلبية، وكلاهما، كما تعلم، ادّعى النبوة. ويشير «ابن كثير» إلى أن سجاح سلّمت لزوجها، وآمنت بنبوته المدّعاة، وتخلت عن طموحها على هذا المستوى، بل وضمت جيشها إلى جيشه لكى يقاتلا معًا ضد خالد بن الوليد، قائد جيوش المسلمين التى خرجت لتأديبهما. ويوغل كُتّاب التراث فى الحديث عن العلاقة الفاحشة التى جمعت بين «مسيلمة» و«سجاح»، رغم أنهما كانا زوجين، ويستشهدون فى ذلك بالكثير من قطع النثر المسجوع، والأبيات الشعرية التى تحكى حالة الشبق التى كان يعيشها الاثنان. ولا تخلو المسألة من رغبة فى تشويه صورة الاثنين، بسبب ادعائهما النبوة، خصوصًا أن كليهما ارتبط بالآخر برباط الزواج، وبالتالى لم يكن من المنطقى وصف العلاقة بينهما بـ«الفاحشة».
وينسب «ابن كثير» وغيره من المؤرخين ما يصفونه بـ«السجع» لمسيلمة الكذاب، وهو عبارة عن قطع نثرية مسجوعة، ويزعمون أنه كان يُسمعها لسجاح فتشهد له بالنبوة. ومن النماذج على ذلك قوله: «لما رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون، فسبحان الله إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السماء كيف ترقون، فلو أنها حبة خردلة لقام عليها شهيد، يعلم ما فى الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور».. وقوله: «والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا». ولعلك تلاحظ أن هذه النصوص تمثل محاولة ساذجة لتقليد آيات القرآن الكريم، تعالى كلام الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وهى فى أغلبها عبارة عن سطور قصيرة تحاول- عبثًا- تقليد بعض السور القصيرة فى القرآن الكريم، ولا يوجد لمسيلمة أى اجتهادات منسوبة فى تقديم سرديات مطولة يحاول أن يقلد فيها سور القرآن الكريم الطويلة. ولا يكتفى المؤرخون بنسب مثل هذا اللغو إلى «مسيلمة»، بل يشيرون أيضًا إلى أنه حاول تعديل بعض التشريعات التى قررها القرآن الكريم أو النبى الأكرم، صلوات الله وسلامه عليه، من ذلك ما ذكره «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» من أن: «مسيلمة- لعنه الله- شرّع لمن اتبعه أن الأعزب يتزوج، فإذا ولد له ذكر فتحرم عليه النساء حينئذٍ، إلا أن يموت ذلك الولد الذكر، فتحل له النساء حتى يولد له ذكر، هذا مما اقترحه لعنه الله من تلقاء نفسه»، وذكر أيضًا أن مسيلمة قال ذات يوم لسجاح: «أرسلى إلىّ مؤذنك، فبعثته إليه، وهو شبت بن ربعى، فقال: نادِ فى قومك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد، يعنى صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة».
ولعلك تعلم كيف سارت الأحداث بعد ذلك، فقد تحركت قوات خالد بن الوليد وقاتلت «مسيلمة» وأنصاره، حتى ألجأتهم إلى حديقة هناك تسمى «حديقة الموت»، فتحصنوا بها، فحاصروهم فيها، وتمكن البراء بن مالك من القفز من فوق سور الحديقة، وأخذ يقاتل جنود مسيلمة ببسالة، حتى تمكن من فتح باب الحديقة. يقول «ابن كثير»: «ودخل المسلمون يكبرون، وانتهوا إلى قصر مسيلمة، وهو واقف خارجه عند جدار كأنه جمل أزرق، أى من سمرته، فابتدره وحشى بن حرب الأسود، قاتل حمزة، بحربته، وأبودجانة سماك بن حرشة الأنصارى بسيفه، فسبقه وحشى فأرسل الحربة عليه من بعد فأنفذها منه، وجاء إليه أبودجانة فعلاه بسيفه فقتله، وصرخت جارية من فوق القصر: واأميراه، قتله العبد الأسود، ويقال إن عمر مسيلمة يوم قتل مائة وأربعون سنة».
من الطبيعى بعد مقتل مسيلمة الحنفى أن نسأل عن مصير «سجاح» زوجته التى رافقته فى رحلة ادعاء النبوة، كما يذهب المؤرخون، أو التى تمردت معه على سلطان قريش، كما تَشِى الأحداث، وقد اختلفت الروايات فيما يتعلق بمصيرها بعد اختفاء مسيلمة من فوق مسرح الأحداث. فابن كثير يذكر أنها انثنت راجعة إلى بلادها، وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض اليمامة، فكرّت راجعة إلى الجزيرة، بعدما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه، فأقامت فى قومها بنى تغلب إلى زمان معاوية حتى كان عام الجماعة، فأخرجهم من أرض الجزيرة التى كانوا يعيشون فيها، ويستطرد «ابن الأثير» فى الكامل فى التاريخ قائلًا: وجاءت سجاح مع قومها وأسلمت وحسن إسلامها وإسلام أهلها من بنى تغلب، وانتقلت إلى البصرة وماتت بها، وصلى عليها سمرة بن جندب. وهناك رواية أخرى يذكر فيها «ابن كثير» أن «سجاح» أسلمت أيام عمر بن الخطاب فحسن إسلامها، وليس أيام معاوية.
أيًا كان الأمر انتهت مغامرة «سجاح» السيدة التغلبية الحديدية التى فكرت فى يوم من الأيام فى السيطرة على جزيرة العرب، وتحدى السلطة التى فرضتها قريش على الجزيرة العربية، عقب وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وادعت- كما يذهب المؤرخون- النبوة، فى سابقة أولى وأخيرة لذلك، إذ تحدث التاريخ كثيرًا عن مدعى النبوة من الرجال، لكنه لم يشر كثيرًا إلى مدعيات نبوة، مثل «سجاح»، وقد كانت من قوة الشخصية، بحيث أخضعت مالك بن نويرة، أحد أبرز رجال «بنى تميم»، ثم روضت مسيلمة بن حبيب، رجل بنى حنيفة القوى، واختتمت حياتها بالرضاء بما آلت إليه، فأسلمت وحسن إسلامها حتى توفاها الله.