نبية «بنى تغلب» الحديدية
تنتمى سجاح- أشهر مدعية للنبوة- إلى بنى تغلب، الذين جاء ظهورهم الأول على مسرح الأحداث فى عام الوفود «سنة ٩ هجرية»، فقد حضر وفد منهم إلى المدينة، يتكون من ١٦ رجلًا، مسلمين ونصارى، قابلوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم. والملفت فى هذا اللقاء ما يذكره «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» من أن النبى صالح النصارى- من أعضاء الوفد- على ألا يضيعوا أولادهم فى النصرانية، وأجار المسلمين منهم، أما الظهور التالى لبنى تغلب فقد جاء عقب وفاة النبى عام ١١ هجرية، حين ادعت سيدة شهيرة منهم النبوة.
«سجاح»، الموصوفة بـ«نبية بنى تغلب»، هى سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان، يشير «ابن كثير» إلى أنها «من نصارى العرب»، ما يضع المحلل فى حيرة وهو يحدد ديانة السيدة، حين اتهمت بالردة، وهل كانت مسلمة.. أم لم تكن قد أسلمت بعد ولم تزل على نصرانيتها؟، خصوصًا أن بنى تغلب اختلط فيهم النصارى مع المسلمين، وتزداد الحيرة حين نجد مؤرخًا مثل «ابن الأثير» يشير فى «الكامل فى التاريخ» إلى أن سجاح كان لديها علم بالنصرانية. ويزداد الاضطرب فى هذه الروايات حين ننظر فى مسألة «ادعاء امرأة للنبوة» والتفاف كل هذا الكم من الأشياع حولها، فى وقت لم تكن مسألة نبوة المرأة محل ترحيب أو اكتراث من جانب العرب، فقد كان من الوارد أن تحظى المرأة فى المجتمع العربى بوضعية سياسية خاصة، كتلك التى حظيت بها هند بنت عتبة، زوجة أبى سفيان، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لمربع الدين، وأقصى ما كان يمكن قبوله على هذا المستوى أن يُنظر إلى المرأة ككاهنة، وكانت «سجاح» توصف لدى بعض كتاب التراث، مثل «ابن كثير»، بـ«الكاهنة».
فى كل الأحوال تزعمت «سجاح»- كزعيمة سياسية أو مدعية نبوة- قومها من «بنى تغلب» فى التمرد الذى وقع بينهم على سلطة قريش التى تبوأ أبناؤها، وعلى رأسهم أبوبكر الصديق، مقعد قيادة العرب، بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم. ولعلك تذكر مقولة أبى بكر الشهيرة وهو يقنع الأنصار بضرورة الاستسلام لفكرة أن يقوم رجال قريش بأمر الحكم بعد وفاة النبى، والتى أكد فيها: «إن العرب لن تخضع إلا لهذا الحى من قريش». هذه المقولة يمكن أن تقدم لك أساسًا جيدًا لفهم العديد من الأحداث التى ارتبطت بموضوع الردة، وادعاء النبوة التى وصف بها شخصيات من العرب، بعد وفاة النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، ومن بينهم «سجاح» التغلبية. فحقيقة الأمر أن العرب اختلفوا على مبدأ «الخضوع لقريش»، وقد استفادت «سجاح» نفسها من هذه المسألة حين تحالفت مع «بنى تميم». يقول «ابن كثير»: «كان بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة، فمنهم من ارتد ومنع الزكاة، ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق، ومنهم من توقف لينظر فى أمره، فبينما هم كذلك، إذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التغلبية من الجزيرة وهى من نصارى العرب، وقد ادعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو أبى بكر الصديق، فلما مرت ببلاد بنى تميم دعتهم إلى أمرها فاستجاب لها عامتهم».
من هذا المنطلق نستطيع أن نقول إن التحالف بين «سجاح» و«بنى تميم» تأسس على مبدأ «مواجهة سلطان قريش»، وقد حدث- أقصد التحالف- و«سجاح» فى الطريق لمواجهة أبى بكر، رضى الله عنه، وقريش التى باتت تسيطر على المشهد، بعد وفاة النبى، والملفت أن أحد الكبار من زعماء بنى تميم، وأيضًا من مشاهير مدّعى النبوة، وهو مالك بن نويرة التميمى، انحاز إلى «سجاح» وانضم إليها فى سعيها لمواجهة سلطان قريش، وأيدها أيضًا عدد من أمراء ووجهاء تميم، مثل عطارد بن حجاب، وفى الوقت نفسه رفض أمراء بطون أخرى من «تميم» الانحياز إلى «سجاح» وظلوا على ولائهم لسلطان قريش والخليفة أبى بكر الصديق، وقد تمكن مالك بن نويرة من إقناع «سجاح» بألا تتعجل فى التوجه نحو أبى بكر وقريش، وأن تجتهد أولًا فى إخضاع البطون الأخرى القريبة المتمردة عليها، وحرضها بشكل خاص على بنى يربوع، فاقتنعت بوجهة نظره وسارت إليهم.
كانت «سجاح» تبحث عن زعامة سياسية أكثر مما تبحث عن زعامة دينية، وقد تتأكد من ذلك إذا علمت أنها أرادت أن تتوجه بجيشها لقتال الاسم الأشهر فى تاريخ ادعاء النبوة، والمتمثل فى مسيلمة بن حبيب الحنفى. فقد قصدت قتاله بعد أن انحاز إليها أغلب «بنى تميم»، فتوجهت بجنودها نحو «اليمامة»- معقل مسيلمة الحنفى- وصممت على أخذها منه، وقد تردد جنودها فى إتمام هذه الخطوة، لأنهم كانوا يخافون «مسيلمة» ومن تحلّق حوله، ويعلمون مدى شراسة بنى حنيفة الملتفين حوله، لكن الزعيمة أنشأت تشجعهم وتقول لهم: «عليكم باليمامة.. دفوا دفيف الحمامة.. فإنها غزوة صرامة.. لا تلحقكم بعدها ملامة». تحفز جنود «سجاح» فعمدوا لحرب «مسيلمة»، فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده، وشعر بأنه محاصر من قِبل «سجاح» من ناحية، ومن قِبل جنود المسلمين الذين ينتظرون قدوم خالد بن الوليد، من ناحية أخرى، هنالك قرر ترويض السيدة الحديدية. وتتعجب وأنت تتابع ما يحكيه المؤرخون عن مجموعة الحيل الذكورية التى اتبعها مسيلمة الحنفى حتى اجتهد فى إخضاع «سجاح» لسلطانه، ودفعها- وهى المدعية للنبوة- أن تشهد له بالنبوة.