رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللاءات المصرية الثلاث

لم يكن دونالد ترامب الرئيس الأمريكى يعلم بهذا الأمر.. أو ربما اعتقد أنه رجل الأعمال الذى يراهن على الصفقة ويكسبها بخبرة وذكاء.. ولكن رهانه هذه المرة كان خاطئًا من البداية.. أو قد يكون اعتقد أنه الرجل الأقوى فى العالم عندما يطلب فعلى العالم أن ينفذ أوامره ويرضخ لقراره.. قال إن على مصر والأردن أن يستضيفا أهل غزة بشكل مؤقت أو بشكل دائم.. 

وأشار إلى أنه تحدث بالفعل مع ملك الأردن، أما رئيس مصر عبدالفتاح السيسى فسيتحدث معه يوم الأحد، ولكن مصر سبقته ورفضت عبر بيان قوى من وزارة خارجيتها.. وكذلك فعل الأردن، ليخرج ترامب مرة أخرى ويعلن عن أنه تحدث مع الرئيس السيسى، ولكن مصر نفت ذلك عبر مصدر مسئول نفى حدوث أى اتصال هاتفى بين ترامب والسيسى.

مصر دولة مواقف.. ثابتة على مواقفها.. لا تتغير ولا تتبدل. 

فهى دولة قوية وعريقة جاءت ثم جاء التاريخ.. لا تخضع ولا تساوم ولا تبتز.. على جدران معابدها الفرعونية علّمت العالم كيف يحافظ الشعب على أرضه.. ويحميها ويدافع عنها بشراسة وتحدٍ لا يعرف الرحمة.

وللمرة الألف مخطط تهجير أهل غزة توقف لأن مصر فقط أوقفته.. ولن يحدث، لأن مصر ترفضه ولن تسمح به قيادة وشعبًا.. لا أحد يعلم حجم الضغوط التى تعرضت لها مصر وقيادتها على مدى خمسة عشر شهرًا، لتقبل بهذا الأمر، ورغم كل شىء وبإصرار لا يعرف التراجع صمد الوطن ولم ولن يقبل بمخطط يهدف فى الأساس إلى تصفية القضية الفلسطينية، وطرد الأهالى من بلدهم وأرضهم وبيوتهم، وخلعهم من ذكرياتهم وتاريخهم وجغرافيتهم، ولذلك جاءت اللاءات المصرية الثلاث «لا للإبادة الجماعية للشعب الفسطينى.. لا لتصفية القضية الفلسطينية.. لا لتهجير الفلسطينيين لمصر أو الأردن».

وبمنتهى الإصرار والتمسك بالديار كان مشهد عودة جموع الفلسطينيين مشيًا على الأقدام لمناطقهم فى وسط وشمال غزة رغم أنها تحولت إلى رماد، مشهد تقشعر له الأبدان من عظمته ومهابته، فنحن نعرف قيمة الأرض وعشق الأوطان، لذلك وبنفس الإصرار يجب حماية هؤلاء، وعدم تعريضهم للمذابح والنزوح والفراق، وأن تضعهم المقاومة فى حساباتها وهى تحارب المحتل، لا أن تجعل من شعب كامل دروعًا بشرية.

فى السابق قامت مصر لأنها دولة بحماية شعبها فى جميع حروبها، فقد نقلت أهالى مدن القناة إلى مدن أخرى بعد حرب ١٩٦٧.. وهى المدن التى كان يطلق عليها وقتها «مدن خط النار» حفاظًا على حياتهم الغالية، لم تضحِ بهم أو تجعلهم يواجهون نيران العدو وهم عُزل لا حول لهم ولا قوة.. وقد قدر عدد المواطنين وقتها الذين تم نقلهم بمليون مواطن، للحفاظ على سلامة الأهالى. 

كذلك فعلت فى الحرب العالمية الثانية عندما وجّهت المواطنين إلى المخابئ، وتم بناء جدران أسمنتية أمام البيوت والعمارات، وأصدرت توجيهاتها بإطفاء النور أثناء الغارات بصفارات إنذار تطلق مع كل غارة.. كانت الدولة تفعل كل ما تقدر عليه وتبذل كل ما تملكه لحماية شعبها، ومرة ثانية لأنها دولة وليست حركة أو ميليشيا.

وإذا كانت عناصر المقاومة تُقتل أثناء المواجهات مع العدو، فهذا هو اختيارهم لم يجبرهم أحد عليه وعليهم تحمل المسئولية، ومن الطبيعى أن يستشهدوا، فهم يتوقعون الموت فى أى لحظة، اختاروا التضحية لتحرير أرضهم، وإنما الأهالى لم يختاروا، بل كُتب عليهم القتل والنزوح والتشريد، وهم لا يريدون غير السلام والاستقرار وتأمين مستقبل أبنائهم وتوفير لقمة العيش. يريد أهل فلسطين بالطبع تحرير بلدهم من الاحتلال الإسرائيلى، مثل أى شعب محتل، ولكنهم لا يريدون الموت وخراب الديار.. على حركة حماس إذًا أن تعترف بأخطائها وتتجنبها، وأن تضع شعب غزة فى حساباتها وهى تخطط للمعارك، لأن غزة تحتاج لشعبها فى كل وقت.. ماذا يفيد غزة إذا تحررت وشعبها غالبيته لم يعد موجودًا بين الموت والتهجير؟.. الأرض تتحرر من أجل الشعب، البشر أهم من الحجر، وعلى المقاومة أن تعى أن المواجهات الصفرية تعنى المساهمة فى إبادة الشعب تمامًا كالمحتل.