حكايتى مع الكتابة «2»
أدركت متأخرة من تجربتى مع الكتابة، أن الكتابة ككرة الثلج، ما إن تبدأ فى التدحرج والحركة حتى تزداد حجمًا، وأن بئر الحكايات لا تنضب بما تجلبها منها، بل تتجدد وتتزايد، وأن ينابيع الحكى قد لا تتفجر بطرقة فأس واحدة، بل تحتاج لطرقات كثيرة وإلحاح، وقد تكون هذه الطرقات مجرد الصمت والتأمل، وأن باب الحكايات لا يفتح للعابرين، بل يحتاج لدربة المقيمين.
وأنا أخاف الكتابة، أخاف الأبواب المغلقة، أخاف الدروب الملتوية، أخاف المفاجآت، أنا ككل العميان أخاف مما لا أراه.
فأتهرب من الكتابة، أتهرب من نقطة البداية..
لا أكتب إلا مجبرة أو مرغمة على الكتابة؛ بدافع من التحرر، الخلاص من فكرة أو مشاعر، أو صورة تملأ ذهنى وتسيطر على خيالى، أو بدافع الالتزام والمسئولية كما أفعل الآن.
ولكن بمجرد أن أجلس للكتابة وأمسك أول الخيط تتدفق الكلمات والمعانى والصور داخلى كما لو كنت داخل سيرك أو عالم ملاهٍ، وأجدنى سعيدة ومتناغمة مع عالمى الخيالى كأنى بهلوان دون خوف أو تردد أو قناع.
وكثيرًا ما ألوم نفسى، بعد أن أنتهى من كتابة قصة أو مقال أو مقطع فى رواية على أنى أضيع كثيرًا من الوقت بكثرة التردد قبل أن أغمض عينىّ وأركب أرجوحة خيالى.
كتبت أول قصة منشورة وأنا فى المرحلة الثانوية، والغريب أن تمر مرحلة الجامعة كلها- بما فيها دراستى فى كلية الإعلام وارتباطى العاطفى بشريك حياتى- دون أن أكتب قصة واحدة.
كنت منغمسة كليًا فى الدراسة الإعلامية، والبحث عن طريق للتدريب فى الصحافة أو الإذاعة، ولم يكن لى طريق غير اجتهادى وطلب المساعدة من كبار الكُتّاب والإعلاميين، الذين كانت الكلية تنتدبهم للإشراف على الجزء العملى ولتقديم المواد المتصلة بممارسة الإعلام، مثل الترجمة الصحفية، الإلقاء الإذاعى.. إلخ.
بدأت بالتدريب فى القسم الخارجى فى جريدة «الأهرام» بمساعدة الأستاذ محمد عبداللاه، مدير تحرير الأهرام آنذاك، والذى كان يدرس لنا مادة الترجمة الصحفية فى العام الثانى بالكلية، وقد كانت مادة الترجمة هى مدخلى للتدريب أيضًا فى مجلة «صباح الخير» بمساعدة الكاتب الكبير: لويس جريس، الذى كان يدرس لنا أيضًا تلك المادة.
فى القسم الخارجى فى «الأهرام» كانت الترجمة تعتمد على ما يرد للجريدة من أنباء وتقارير من الوكالات، وكان ما أترجمه هو ما سبق وترجمه محررو القسم، ونُشر لهم بالفعل، فلم يحدث أن ترجمت شيئًا ذا فائدة للجريدة العملاقة، لكن فرصة التدريب سمحت لى بدخول مبنى «الأهرام»، الذى يعتبر حصنًا، من المستحيل دخوله إلا بإذن من الداخل، ولا أعرف كيف لم تلهمنى هذه التجربة أى قصة حتى الآن، بما فيها من استكشاف لعالم ضخم، مغلق، غنى بالنماذج البشرية ومتعدد الأنماط فى العلاقات الوظيفية والإنسانية.. وربما يكون صغر سنى وضآلة دورى أو عدمه داخل المبنى وتركيزى على التعلم الذاتى هو ما خلق لدىّ وقتها هذه الحالة الرمادية والحياد الوظيفى فى المشاعر والأحاسيس، فقد كنت مجرد مشاهد غير مشارك أو فاعل، وربما غير مرئى، وربما تكون قلة خبرتى الحياتية فى مواجهة كثافة الرموز والإشارات التى كانت تمر أمامى جعلتنى لا أدرك وقتها طبيعة الصراعات أو التفاهمات، فى الغالب ما أكتبه الآن هو فى الحقيقة كتابة وعى اللحظة الراهنة، أما ما كان حادثًا لى وقتها فيحتاج إلى وقت لاسترجاعه، وربما يكون نواة لعمل قصصى أو روائى وربما لا يكون.
من «الأهرام» انتقلت إلى التدريب فى مجلة «صباح الخير»، وهى تجربة تختلف كثيرًا عن تجربتى القصيرة اللا مرئية فى «الأهرام».
وللحكايات بقية..