رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايتى مع الكتابة «1»

أدركت فى الصف الأول الثانوى أننى أستطيع التعبير عما أريد قوله بتحويله إلى قصة أو حكاية، كانت حصة التعبير هى منطلقى لهذا الاكتشاف.. فلم أعد أرغب فى كتابة موضوعات التعبير التقليدية عن النظافة والنظام وحب الوطن والتضحية فى شكل المقال المكون من مقدمة وخاتمة وبينهما جسم الموضوع.. صارت الأفكار تتحول إلى قصص وحكايات سمعتها من المحيطين بى أو يسرح خيالى ويشكل شخوصًا وأحداثًا.. قد لا تكون قصصًا مكتملة أو هى خليط من المقال والقصة.. لا يوجد بين يدى ما يدلل على حقيقة هذه الذكريات أو ما ينفيها.. لكننى أستطيع التأكيد أن أول قصة كتبتها فى حياتى وعرضتها على المدرس الأول للغة العربية، والمشرف على نشاط الإذاعة المدرسية، هى قصة أطلقت عليها: الوديعة، وقد استلهمت خطوطها الرئيسية من حادثة وقعت لجارة لنا، أصيبت رضيعتها بارتفاع درجة الحرارة، وعندما ذهبت بالرضيعة للطبيب، أعاد لها ثمن الكشف لأن الطفلة فارقت الحياة، وكان قد مضى أكثر من ثمانى سنوات على معرفتى بهذه الحكاية، وقد رُزقت الجارة بأكثر من طفل وطفلة، وكان وفاة الأطفال فى سن مبكرة- فترة السبعينيات والثمانينيات- أمرًا واردًا نتيجة الجفاف أو الالتهاب المعوى، ولم تكن الرعاية الصحية للرُضع على نفس الاهتمام والتقدم الموجودين الآن.

ظلت ذاكرتى تحتفظ بخطوط القصة التى سمعتها، ووجدتنى قادرة على تقمص روح هذه الأم الشابة ومعايشة مشاعرها بين الجزع والخوف عند اكتشافها مرض الرضيعة، والرجاء والتمنى وهى فى طريقها للطبيب، والحزن والألم وهى عائدة تحمل طفلتها وقد فارقت الحياة.. وجدتنى أسجل هذه المشاعر التى لم أرها، ولكن تخيلتها، وغيّرت فى الأحداث «حتى تحمل أبعادًا ميلودرامية»، فجعلت الأم من قرية بعيدة عن المركز، وأنها ظلت طوال النهار تنتظر عودة زوجها بنقود ثمن كشف الطبيب، وأن الطبيب كشف على الطفلة، فوجدها فارقت الحياة، فعادت إلى قريتها وهى تحتضن طفلتها، والنقود فى يدها بلا قيمة، وطوال الطريق يدور داخلها مونولوج طويل عن الأشياء التى نفتقدها، وتأتى فى الوقت غير المناسب.

عرضت القصة على أستاذ اللغة العربية، الذى كان يكتب الشعر ويقرأ علينا بعض ما يكتب، فأثنى على القصة وأعجبته قدرتى على التعبير عن مشاعر بطلة القصة، وسلاسة وعذوبة اللغة، ونبهنى إلى روح الميلودراما التى تشيع فى أجوائها، فلماذا لم يذهب معها زوجها أو أحد من الجيران للطبيب؟، ولم تكن لدىّ إجابات لما طرحه من تساؤلات لم تمنعه من الثناء على القصة ونشرها باحتفاء فى مجلة الحائط بالمدرسة.

ورغم هذا التشجيع، لم يتبلور فى مخيلتى أن أكون أديبة كاتبة قصة أو رواية، ولم يكن هذا التقسيم ذا مغزى فى ذهنى، فمنذ وعيت وأمنيتى أن أكون مذيعة راديو، فهو حلم طفولتى وصباى، وكانت الكتابة منحة ربانية لم أحاول أن أبذل جهدًا لصقلها أو تنميتها.. فقد كنت أقرأ ما يتاح لى فى مكتبة المدرسة من أعمال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ومصطفى المنفلوطى، ويوسف السباعى، وإحسان عبدالقدوس، ود. مصطفى محمود وغيرهم، ولم يكن لى اهتمام خاص بقراءة الأدب وتتبع الأدباء وأعمالهم بشكل خاص، لكنها كانت جزءًا من اهتمامى بالقراءة عمومًا، فكنت أقرأ كتب العلوم والفلسفة والتاريخ والسياسة وسير الشخصيات، وأذكر أن أول سيرة حياة معاصرة أتممت قراءتها كانت كتاب: مذكرات فرح ديبا إمبراطورة إيران، وكنت فى المرحلة الإعدادية، وما زلت أتذكر حجم الكتاب وصور الإمبراطورة وحفل التتويج الشهير.

كنت أقرأ فى كل شىء دون خطة محددة للقراءة أو هدف سوى المعرفة، وكثيرًا ما كنت أنقل هذه المعرفة والمعلومات إلى زملائى عبر ميكروفون الإذاعة الصباحية، وقد ظللت المسئولة عن الإذاعة المدرسية منذ كنت فى الصف الرابع الابتدائى حتى تخرجت فى المدرسة الثانوية ودخلت كلية الإعلام جامعة القاهرة.. فلا عجب أن تدور كل أحلام يقظتى فى استديوهات البرنامج العام وإذاعة الشرق الأوسط.. وأن يكون مثلى الأعلى عمر بطيشة، ونادية صالح، وأمينة صبرى، وأن أكون مغرمة بالبرامج الحوارية وقراءة نشرات الأخبار.

ضاع نص قصة «الوديعة» فيما فقدت من أوراق، لكن القصة التالية كتب الله لها البقاء ولتصير واحدة من قصص مجموعتى الأولى «البنت التى سرقت طول أخيها»، ولقصص هذه المجموعة التى صدرت عن دار ميريت ٢٠٠٤ حكايات، وقبلها أيضًا حكايات لا تنتهى.

.. وللحكايات بقية.