رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العقل المنظم فى عصر تُخمة المعلومات

كثيرًا ما نهدر وقتنا فى البحث عن أشيائنا المفقودة، مفاتيح البيت أو السيارة، ريموت التكييف أو التليفزيون. 

أو نكتشف أننا نسينا موعدًا مهمًا مع شخص قريب، ومع تعدد مهامنا اليومية وزيادة تدفق المعلومات وتعرضنا لكم غير محدود من المعلومات التى نتعامل معها كل دقيقة، خاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعى، نجد أنفسنا معرضين للإصابة بالارتباك وتشتت الذهن. 

إن عقل الإنسان يتعامل يوميًا مع ١٠٠ ألف كلمة فى المتوسط، أى نحو ٣٤ جيجا بايت، ومن ثم لا يستطيع العقل التعامل مع كل ما نتلقاه من معلومات، فكيف ننتقى ما يفيدنا من الكومة الكبيرة للمعلومات؟، كيف نتغافل عمَّا لا نحتاج إليه ونركز على ما نحتاجه؟.. هذه عملية تتطلب جهدًا يستهلك جزءًا كبيرًا من طاقة الدماغ وتؤثر على عملية الانتباه التى تقود العقل الباطن لاختيار ما يجب التركيز عليه والانتباه إليه، فيما يعرف بمصفاة الانتباه.

فكيف ننظم عقولنا، وندعم عملية الانتباه لدينا فى عصر الحمل الزائد للمعلومات؟ 

إجابة هذا السؤال الصعب نجدها عبر رحلة يقودنا خلالها بسلاسة وبساطة آسرة عالم النفس الأمريكى دانيال ليفيتين، فى كتابه «العقل المنظم فى عصر الحِمل المعلوماتى الزائد»، الصادر حديثًا عن المركز القومى للترجمة. 

رغبة الإنسان أن يكون منظمًا تعنى رغبته فى التحكم ببيئته الجسدية والنفسية، ويخبرنا علم النفس المعرفى بأنه يمكننا أن نسيطر عندما نضع ما نحتاجه نصب أعيننا بشكل مستمر وبإخفاء ما لا نحتاجه، ومن الابتكارات التى توضح هذا المبدأ، التحكم عن بُعد، الذى نسيطر به على احتياجاتنا عند استخدام الأزرار المتاحة أمامنا، فرغبتنا فى التعلم المستمر ومعرفة كل شىء والبحث المستمر، قد تشتت انتباهنا، وقد تكون معوقًا لتقدمنا ولحياتنا، وقد تكون طريقة لتطوير حياتنا، ويلخص ليفيتين الفكرة بمقولته: «قد يتسبب نهمنا للمعرفة فى نجاحنا أو فشلنا».

تحدث الكتاب عن تطور البشر، منذ بدايتهم وما حدث من تغيير فى أنظمتهم العصبية وكيف تكيفوا بهذا التغيير مع البيئة المحيطة بهم، وكيف تعامل الإنسان مع حاجته لتخزين المعلومات والمعارف التى تراكمت عبر مسيرة البشرية حتى وصل العقل البشرى لعصر المعلومات الحالى، الذى تتوافر فيه الخزائن والحواسيب والهواتف والأجهزة الذكية، وقد اعتمد الإنسان على الذاكرة من خلال الرسم والنقش والأصوات، من خلال الموسيقى، قبل اختراع الكتابة وأنظمة التقويم لمختلف الحضارات البشرية.

يذكر «ليفيتين» أن اليونانيين هم أول من استخدم المصادر الخارجية للذاكرة، ولم تتأخر حضارة المصريين القدماء عنهم بعد اختراعهم المكتبة، كما يوضح أن هناك طريقتين رئيسيتين تمكنانا من السيطرة وتحسين عملية الانتباه، هما:

■ التركيز فى طريقة إدخال المعلومات وتشفيرها.

■ إيجاد أسهل الطرق لاسترجاع المعلومات.

ما يطرحه الكتاب يتصل اتصالًا مباشرًا بحياتنا، فهو يخبرنا كيف ننظم شئون حياتنا وكيف نرتب أفكارنا، وعلاقاتنا مع البشر وغير البشر، وما الأخطاء التى يقع فيها الناس، وهم يسيرون فى دروب الحياة؛ فتكلفهم الكثير من أموالهم وجهودهم. 

الناجحون من البشر هم الذين يستطيعون معرفة طبيعة نظام الدماغ وسبل التوافق معه، وهم القادرون على تصنيف المعلومات المهمة وفصل ما يحتاجون إليه عمَّا يشتت انتباههم، ويستخدمون منظومة الانتباه ويفعِّلون الذاكرة الخارجية قدر إمكانهم؛ لكى لا يبذلوا جهودًا لاسترجاع ما يهمهم من معلومات، وهذا هو الانتباه، الذى قد لا يكون فى صف واحد مع آلية تعدد المهام، التى يلجأ لها الكثيرون.

ومن أشهر الأمثلة على هؤلاء الناجحين، الثرى الأمريكى الشهير وارن بافيت، الذى يعد من الأمثلة الشهيرة على اتخاد القرارات بسهولة دون إرهاق عقله بالخيارات، وذلك باتخاده منزلًا صغيرًا وبسيطًا كسكن له منذ أكثر من ٥٠ عامًا، على الرغم من أنه فى إمكانه شراء أفخم القصور، بالإضافة إلى وجباته البسيطة، لكن حينما يكون الأمر متعلقًا بوضع استراتيجيات مشروعاته الاستثمارية الكبرى؛ فإن بافيت لا يتباسط فى دراسة وتحليل مختلف المعلومات الداعمة لقراراته. 

وفيما يخص اتخاذ القرارات فإن ليفيتين يصفها بأنها من أصعب العمليات التى يقوم بها العقل البشرى؛ نتيجة للتخوف الذى قد يعترى الشخص من العواقب المستقبلية للقرار، وهو ما قد يظهر فى شكل فشل وقرارات خاطئة عند استخدام الحدس والغرائز، ويؤكد الكتاب أهمية النوم فى عملية تنظيم المعلومات فى المخ وسهولة استردادها. ومقاومة الميل الفطرى لدينا للفوضى.

ويحثنا الكتاب على ضرورة أن نعلم أطفالنا مهارة التعلم مدى الحياة، وأن نغرس فيهم الفضول الإيجابى الذى يساعدهم على طرح الأسئلة المهمة لإشباع هذا الفضول، ولا ضير من ارتكاب الأخطاء أثناء عملية التعلم، فهى تساعدهم على التأقلم مع التغيرات السريعة التى يمرون بها أو التى سيمرون بها مستقبلًا فى حياتهم، مع تعزيز قدراتهم فى حل المشكلات والابتكار ما قد يسهم فى حل الأزمات التى نمر بها فى وقتنا الحالى.