رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متسع من الوقت

سأكتب عنه قصة..

الرجل الذى يجلس ساندًا ظهره للعمارة التى لم يكتمل بناؤها، ملتحفًا ببطانية صوف سوداء، وأمامه راكية بها جذوة لهب أوشكت على الانتهاء، عليها كنكة سوداء يحرك يديه قريبًا منها، ويدفئ صدره برشفات من كوب شاى.

هكذا ورد لخاطرى وأنا أقف فى شرفتى، وأفرد ذراعى كى أطرد بقايا نوم ما زال عالقًا بأهدابى، وكان لدى متسع من الوقت.. عشر دقائق استيقظتها مبكرًا قبل أن يدق جرس المنبه معلنًا السادسة، ويبدأ موعدى اليومى مع العالم.

أحاول تبين ملامح الرجل.. تغيم تفاصيله خلف الكوفيه التى يلف بها رأسه، ويتدلى طرفاها على جانبى الوجه، أسند ذراعى على سور الشرفة، أشب على أطراف أصابعى، لا يبدو غير ثلاثة خطوط سوداء حاجبيه وشاربه، وثلاث فتحات مستديرة عينيه وفمه.

لكن الدفء الذى يتسرب من حجرتى، ولسعة البرد فى الشرفة، والشارع الخالى إلا من كلاب تطلق نباحًا متقطعًا وتعود لنومها، وقطة تبحث فى صندوق القمامة على ناصية الشارع، والدقائق المتاحة لى كلها تدفعنى أن أمعن النظر إليه وأبحث عن طرف خيط أنسج منه قصة، تبدأ من؟ أبدأها من.. استكانة جسده، يقطة عينيه، وجنيهات قليلة فى جيب الصديرى، يربت عليها فى انتظار أن تأخذ طريقها للبلد مع قريبه أو أحد بلدياته كراتب الشهر السابق والشهور التالية.

يقلب الرجل فى الراكية تمتلئ الخطوط بزوجة تسحب بقرتها متجهة لأرضها ومن نفس الخط تعود لتوقظ الولدين، ليأخذا طريقهما إلى المدرسة، أراهما يركلان حجرًا فى الطريق، يلتقطان آخر، يقذفان به كلبة تنبح دون أن تترك مكانها وتحرم أطفالها ثديها.

يدق جرس المنبه، ينفلت خيط القصة، ألفه حولى إصبعى، أقبض عليه بكفى، والرجل يقلب فى الراكية، يسحب الرجل نفسًا من جوزة كانت بجواره.

أسرع للحمام، فى طريقى أخرج اللبن من الثلاجة، أشعل البوتاجاز، أضع على العين الصغيرة كسرولة اللبن، أتوضأ، أطفئ النار عن اللبن، سجادة الصلاة ليست فى مكانها، أبحث، أجد البلوزة الجينز الطويلة والإيشارب السكرى، أسحب ورقة جورنال من كومة الجرائد القديمة التى أحتفظ بها لنأكل عليها، أو أفرش بها أرفف المطبخ وألمع الزجاج، أفرش الورقة تجاه القبلة، أحبك إيشاربى، وقبل أن أخلص النية أنادى على ابنتى كى تستيقظ، لا تستجيب، أهز كتفها. تتذمر حاضر يا ماما، أعود لورقة الجريدة والصلاة، تمر الدقائق والبنت ستتأخر، أجلس على حافة السرير، والجريدة فى يدى أهزها.

– اصحى يا جميلة.. اصحى يا حلوة..

أتشاغل عن كسلها بالنظر فى ورقة الجريدة، ألمح عنوانًا كبيرًا بالخط الأسود

كارثة إنسانية فى قطار الصعيد

أهز ابنتى بقوة

اصحى بقى تأخرت..

بعد أن اطمأننت على دخولها الحمام، أجلس على السفرة والورقة فى يدى، عيناى تتابعان الخبر ويداى تجهزان الساندوتشات، التفاصيل الكاملة لرحلة قطار الموت، تفحم ٣٧٠ راكبًا من الأطفال والنساء والرجال فى دقائق، شهود الكارثة والناجون يحكون. 

انتهت ابنتى من ارتداء ملابسها، أغلق باب الشقة، ادفع بابنتى إلى الكرسى الأمامى، ألف حول السيارة، أراه عن قرب، ففى يده لقمة، وعلى الأرض يفرد ورقة مزيتة عليها ثلاث طعميات ورغيف ونصف وربطة جرجير مفكوكة، يدفع اللقيمات إلى فمه ساهمًا.. تطلعت إلى شقتى، نسيت باب البلكونة مفتوحًا، أتردد، تنادينى ابنتى.

هيا يا ماما تأخرنا، أسرع لشقتى، الأسانسير عالق فى الدور السابع، أصعد سلالم الأدوار الأربعة، أغلقها، أتذكر أننى لم أخرج نصف الفرخة من الثلاجة، هناك دائمًا ما أنساه، أعود لسيارتى، والرجل لم ينته بعد من رغيفه الأول وقرص طعميته الثالث.

أوصل ابنتى للمدرسة، إشارة المرور وكل إشاراتى التالية كانت مغلقة، ثم وصلت، ختمت الكارت الثامنة وعشر دقائق، متأخرة عشر دقائق عن العمل، أجهز الملفات لاجتماع مجلس الإدارة، خطة ترويج القنوات، خرائط قناة الأفلام، الطرب الموسيقى، الرياضة، المدير فى طريقه للمحطة، الساعة الثانية والاجتماع ما زال مستمرًا، استأذن أوصل ابنتى للدرس القريب من عملى، أعود، أعد تقريرًا عن الاجتماع وأهم التوصيات، أطبع النسخ للحضور.

أفاجأ بابنتى

– برافو عرفت تيجى لوحدك.

تأخرت علىَّ.

– نص ساعة وأنتهى من التقرير.

نعود للبيت..

غابت الشمس فبدأ الليل ينشر خيوطه، والرجل الذى سأكتب عنه يرش الحوائط الحمراء بالماء، أجهز طعام الغداء، المكرونة، والفراخ والبانيه.

أتصل بزوجى، أطمئن عليه، أطمئنه علينا- كل شىء تمام. أراجع دروس ابنتى.

تسألنى وأنا أصحح لها مسائل الحساب.

- بابا هيرجع إمتى؟

– بعد بناء القرية السياحية اللى بيشرف عليها.

– ومش هيسافر بعد كده؟

– يمكن.

تذهب ابنتى لسريرها، أحكم الغطاء حولها وأستعد لكتابة القصة، أجلس على الكنبة فى حجرتى، أضىء الأباجورة، أفتح درجى، أخرج أجندتى ذات اللون البنى، أمسح طبقة كثيفة من الغبار تغطيها، تلمع الأرقام الذهبية ١٩٨٧، أقلب فى أوراقها.. الظلال أول قصة كتبتها فى المدرسة الثانوية، بالقلم الأخضر تعليق مدرس اللغة العربية.. قصة جميلة، أسلوب سلس، موهبة كبيرة، أضم الأجندة لصدرى، تجمع الزوجة ولديها حول صينية العشاء، يتذمر الكيبر.. تانى بامية.. يتطلع لدجاجة تنقر حباتها فى أمان حتى يحين موعدها آخر الشهر المقبل، عندما تنتهى العمارة أغفو، يجهز زوجى حقيبة السفر، الغردقة، مرسى مطروح، والعمارات التى لا نسكنها تعلو طابقًا فوق طابق.. فزعة تذكرت، لم أغسل الأطباق.

من شرفتى ألقى نظرة على الرجل الذى يجلس ساندًا ظهره لعمارة لم تكتمل بعد، وقد بدأ فى إشعال نار الراكية، وبجواره جوزة يستعد لشربها، وسعال يستعد لبصقه، وليل طويل يسهره.. أغلق باب الشرفة وأقسم غدًا سيكون لدى متسع من الوقت وأكتب عنه قصة.