الغناء ودوره فى انسجام المجتمع
كتبت أكثر من مرة عن ضرورة تدخل الدولة لإنقاذ صناعة الغناء فى مصر، لأنه، ومنذ نهايات القرن التاسع عشر هو ديوان المصريين وليس الشعر أو الرواية، ولأنك تستطيع أن تؤرخ به لحظات الصعود والهبوط فى الوجدان الجمعى، ولحسن حظنا أننا نمتلك تراثًا عظيمًا فى هذا الفن، وكان باستطاعتنا البناء عليه وتطويره، ولكننا لم نفعل ذلك، وكانت النتيجة- كما نرى- تراجعًا مخيفًا، ليس فقط فى صناعة الغناء، ولكن فى غياب الإحساس بالمسئولية تجاه المواطن المصرى الذى يبحث عن موسيقى تعبر عنه فى اللحظات المرتبكة، الغناء فى مصر أسهم فى انسجام المجتمع، وجمع بين الفلاح والعامل، بين أبناء الدلتا وأبناء الصعيد، بين البدو والنوبيين، بين المسلم والمسيحى، غناء واحد للجميع، رغم التنوع الثقافى والجغرافى الذى يميزنا.
هذا الفن صنع شيئًا عظيمًا مشتركًا فى ذاكرتنا جميعًا، أنظر بأسى على المعارك الجانبية بين كبار المطربين، حول من له الحق فى غناء التراث، وبأسى أكبر على عدم اهتمام الدولة، كما ينبغى، للنهوض بصناعة عظيمة كنا ندخل بها بيوت كل العرب ليعرفوا الرقة والعذوبة والصفاء التى جعلتنا بناة حضارة، فى الوقت الذى بدأ آخرون فى هز عرشنا، بالطبع يحق لأى بلد أن يفعل ما يراه لإسعاد ناسه، ولا نزايد على من ارتبطت مصالحهم بهذا البلد أو ذاك، ولكننا فى حاجة إلى صناعة نجوم جدد يعبرون عنا، بعيدًا عن آليات السوق والاستقطاب العنيف، إلى وقت قريب كانت الإذاعة المصرية هى التى تعتمد المطرب والملحن والمؤلف، وكان أساتذة عظام هم الذين يجيزون الأفضل، وكان يحدث هذا فى اختيار قارئ القرآن الكريم، تراجع هذا الدور للأسف الشديد، واختفى النقد الصادق العفيف فى الصحف والشاشات، ولم تعد هناك أفلام غنائية، وتم اختزال نجوم مصر من الذين ينتمون إلى النهر الرئيسى للغناء فى عشرة أشخاص على الأكثر معظمهم تجاوز الستين، كأن هذا البلد غير قادر على اكتشاف مواهب جديدة.
بالطبع توجد أشكال من الغناء تحاول سد الفراغ الذى حدث بسبب عدم ضخ دماء جديدة وأفكار جديدة، مثل الغناء الشعبى الذى يلبى حاجة قطاع كبير من المجتمع، رغم عدم دراسة مطربيه أصول الموسيقى، ولكنه فن عريق وموجود، ونستبعد منه ما أطلق عليه غناء المهرجانات، الذى احتل مساحة كبيرة، ليس لأسباب فنية، ولكنه عبر عن شريحة فى المجتمع كان الجميع ينظر إليها باستعلاء، باعتبارهم عشوائيين، هذه الشريحة عبرت عن نفسها بصخب وعنف، وعبرت عن غضب دفين بسبب التجاهل، وأغنياتهم لن تستمر طويلًا، لأن منتجيها لم يطوروا أفكارهم. الغناء الرسمى، إذا صح التعبير، هو المرتبط بالتحديث فى مصر، منذ محمد عثمان والحامولى والمسلوب، مرورًا بسيد درويش وداود حسنى وكامل الخلعى، ثم القصبجى وعبدالوهاب والشيخ زكريا والسنباطى، ثم أحمد صدقى ومحمد فوزى ومحمود الشريف، ثم الموجى ومنير مراد وبليغ والطويل ومكاوى وعبدالعظيم عبدالحق وعبدالعظيم محمد وإبراهيم رجب وحلمى بكر، ثم عمار الشريعى وصلاح وفاروق الشرنوبى وحمدى رءوف وغيرهم. هؤلاء مع كثيرين غيرهم صنعوا نهضتنا الحديثة، لحنوا لكل الأصوات العذبة التى صادفناها، أغنيات للناس وللوطن وللعروبة ولشحذ الهمم فى اللحظات الصعبة، غنوا لمصر وهى تنهض مع ثورة ١٩١٩، وغنوا لأحلام يوليو العظيمة التى انكسرت فى الهزيمة، غنوا لنصر أكتوبر العظيم، غنوا للعشاق وللعمال وللفلاحين، غنوا فى المحافل الدينية فى المواسم الروحية، المغنون القدامى كانوا يغنون للناس ويستمتعون معهم، كانوا يواسونهم ويطبطبون على أرواحهم المتعبة، ولهذا السبب عاشوا فينا وبيننا رغم رحيلهم، لأنهم كانوا صادقين، ويعرفون أن مصر قادرة على الغناء رغم كل المصاعب.