رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل كان سعد الدين حسنًا؟!

«سعد الدين حسن.. هل كان سعد الدين حسنًا؟»، هكذا كان يُعرّف صاحب «احترس القاهرة» الآخرين عليه فى بداية التعارف، ويذكّر بها أصدقاءه آخر الليل، عرفته وأنا طالب فى الجامعة بطنطا أوائل الثمانينيات، يجلس فى مقهى «العثمانلية»، الذى كان ملتقى المثقفين والمبدعين آنذاك، أمثال فوزى شلبى ومحمود حنفى كساب ويحيى شرباش، وصالح الصياد وأحمد عزت سليم وعلى عبيد ويحيى خلف وآخرين.

كان خارجًا من تجربة فى غاية الغرابة فى السكة الحديد، وعاهدنى أكثر من مرة على كتابتها، ولكنه لم يفعل، ولكنه أطل عليها فى مجموعته الأولى وهو يكتب عن مساعد كمسرى مريض نفسيًا. 

كانت وظيفة سعد التى قضى فيها ثلاثة أعوام هى الجلوس فى العربة الأخيرة من قطار البضائع المتجه إلى مرسى مطروح حاملًا «فانوس»، تجربة تجمع بين السأم والتأمل والمغامرات، كثيرًا ما كان القطار يتوقف فى أماكن غريبة بسبب الرمال التى تغطى الجدران، ويشارك سعد السائق ومساعده والعطشجى إزاحتها لكى تكتمل المسيرة. 

كان يحكى تفاصيل التجربة بسعادة لا تتلاءم مع قسوتها، كان حريصًا على هندامه، وتلميع حذائه الأبيض، كان يفضل أيامها البدل البيضاء، لأنه بعد المقهى ينتقل إلى مكان يُشبه إلى حد ما جروبى سليمان باشا اسمه الأقصر، تسهر فيه نخبة طنطا من التجار والسياسيين ووجهاء المجتمع، تصادقنا سريعًا، كنت فى بداياتى مع الشعر وكانت ذائقة سعد الرفيعة بوصلة حقيقية، عرفت أهله فى منطقة «سيجر»، وكانت أمه «تشيل لى منابى» إذا قال لها سعد إننى قد أذهب معه.

كان يعد لإصدار مجموعته الأولى «احترس القاهرة» عن مطبوعات الرافعى، التى قدمها بمقطع من ربيع أسود لهنرى ميلر «لا تزال أمامى عشرون سنة وهذا الشىء لا يفتأ يزداد سوءًا كل ساعة. إنه يخنقنى، فى غضون عشرين عامًا لن يبقى هناك رجال رقيقون أحباء ينتظرون ليحيونى. كل صديق حميم موجود حاليًا هو ثور ضائع إلى الأبد، إننى محاصر بسور من الفولاذ والأسمنت. والرصيف يزداد صلابة على صلابة. العالم الجديد ينهشنى من الداخل. يصادرنى، وقريبًا لن أحتاج حتى إلى سم». 

بعد أكثر من أربعين عامًا من الصداقة، وبعد أن وصلنى خبر رحيله تذكرت هذا المقطع، واستعدت شريطًا من الذكريات كان سعد فيه عنوانًا للرقة والعذوبة والبهجة والموهبة، شخص عف اللسان يتمنى الخير للآخرين، لم يزاحم أحدًا على شىء، وعاش للكتابة، واختار عالمًا شجيًا وأبطالًا حقيقيين فى الدلتا لكى يخلد مصائرهم بلغته الفريدة التى تقترب من الشعر، عالمه قريب من عوالم عبدالحكيم قاسم ومحمد البساطى، ولكنه يختلف عنهما ببحثه عن أشكال جديدة يضع فيها خبراته مع الناس والكتابة.

فى تقديمه مجموعة «عطر هارب» اختار مقولة محيى الدين بن عربى «الحرف يسرى حيث يراد به القصد»، ولـ«تينسى ويليامز» مقولة «لطالما كتبت لضرورات أعمق مما تتضمنه كلمة حرفة». الكتابة عنده ليست حرفة، رغم أنه الوحيد فيمن عرفنا الذى كتب فى خانة المهنة فى بطاقته «كاتب قصصى حر»، نجح سعد من خلال أعماله القليلة فى التأكيد على أن فن القصة القصيرة لا يزال قادرًا على المفاجأة، بشرط تطعيمه بخبرات مختلفة.

تتجلى طاقة صاحب «أول الجنة أول الجحيم» كسارد قادر على خطفك إلى عالمه والتجول بك وهو يتحدث عن سيرة عزبة الجسر فى الكتاب الذى يحمل الاسم نفسه، «فى النهار لا يحد روحها العجيبة شىء، وفى الليل تأخذ مكانها بين النجوم، محاطة بتيجان من النخيل والأرواح والجميز والكلاب والجازورين والنحل، والكرنب والحمام والزرائب والهاموش والخبازى والعفاريت والقرنبيط، والأحلام والهواجس والبصل وعنب الديب والسك والترع وطائر زماَّر النار، ولا تلم جسدها حين تطير.

عزبة الجسر صريحة وواضحة ولا تخجل من حقيقتها العارية.

ها أنت غير مدركة باللمس، مثل ريح تهس لنفسها فى الفجر مغطاة بالأنفاس واللهاث والعيون، مثل سهيم القلب، من بين أوتارك تنسرب الهواجس والأحلام، والأخيلة تدفع أمامها أسراب الصور، هكذا أنت دائمًا حين تدخلين تحت حرامك الصوف.

أنت وردة الطلسم والحلبة، وهن أكمامك، طنطا شمالًا، المحلة الكبرى جنوبًا، شبشير الحصة شرقًا، القرشية والبندرة غربًا، ها أنت فى المنتصف تمامًا، قلب الكون ومحيطه، اصغِ...، لامتدادك وتضاريسك نغمات ناى مصرى عجيبة، أنت عاصمة الوجود إذن يا عزبة الجسر».

كتابة فيها فتوة ورقة وتأمل، لم يبحث سعد عن عوالم تعجب المستشرقين والناشرين، هو يضع غلالة رقيقة على البيوت والشوارع والبشر المنسيين الذين يراهم كتاب الحكايات ولا يقتربون منهم. فى سنواته الأخيرة تفرغ لنهر النيل وكتب أسطورته بروح فنان، نشرت له فصلًا فى مجلة «ديوان الأهرام» قبل تسع سنوات وفصلًا آخر فى مجلة «إبداع» بعد ذلك بثلاث سنوات، كتابة كبيرة احتشد لها بالمعرفة والموسيقى والإحساس بالمسئولية، وبلغة سعد المحلقة المعهودة، ولا أعرف مصير هذا الكتاب العظيم بعد رحيله.

علاقتى الشخصية بسعد والحكايات التى جمعتنا يضيق بها المكان، وأتمنى أن أقبض على صديقى الحبيب فى كتابة تليق به، وبالأيام والليالى والصداقات التى بيننا.. ألف رحمة ونور على روحك يا سعد.