عن نعمان عاشور.. والخوف القديم
نعمان عاشور «١٩١٨- ١٩٨٧» واحد من أعمدة الثقافة المصرية، ليس فقط ككاتب مسرحى صاحب تاريخ عظيم، ولكن لأنه شهد التحولات العميقة التى طالت المجتمع المصرى منذ أوائل أربعينيات القرن الماضى حتى رحيله. تخرج فى كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية سنة ١٩٢٤، ويحكى أنه كان فى كلية الحقوق، وحين أراد التحويل إلى الآداب اختبره طه حسين شخصيًا لكى يتأكد من استحقاقه هذا الشرف، وله مع العميد أكثر من حكاية سأتطرق لها فيما بعد.عاشور الذى ولد فى مدينة ميت غمر محافظة الدقهلية لأسرة ميسورة نسبيًا، وعشق المسرح منذ طفولته، لأن والده كان دائم التردد على شارع عماد الدين، له تجربة فى الحياة تستحق التأمل، لأنها كانت محفوفة بالمخاطر والمفاجآت، جعلته خائفًا، حتى بعد تحققه كأحد فرسان المسرح، ولكنه لم يكتب عنها فى مذكراته الجميلة التى صدرت تحت اسم «المسرح حياتى»، ولكن الأستاذ رجاء النقاش رصد هذه المخاوف فى تقديمه طبعة من كتاب «مع الرواد» صدرت عن مكتبة الأسرة قبل عشرين عامًا، وعثرت عليها قبل أيام عند باعة الكتب القديمة فى شارع رمسيس. صاحب «عيلة الدوغرى» لم يعانِ اقتصاديًا مثل معظم أبناء جيله، «كان بعيدًا كل البعد عن أن يكون صاحب شخصية (زئبقية) مثل بعض أبناء جيله، ممن تعلموا القدرة على المهادنة والتلون، وتغيير الانتماء من موقف إلى موقف، ونفاق الحكام والجماهير على السواء». كان يرى أن الأدب والفن ينبغى أن يتحولا من مجرد التصوير إلى المساهمة فى التغيير، والدعوة إلى فتح طريق جديد للمستقبل الاجتماعى، وهذا الطريق عند صاحب «المغماطيس» هو طريق العدالة الاجتماعية التى تقوم على القوانين والتشريعات والمبادئ المستقرة، كان يؤمن بتوفير الفرص المتساوية بين الناس فى المجتمع. قبل ثورة يوليو اتهم فى قضية مرتبطة باليسار والانضمام إلى تنظيم يسارى محظور، وهى القضية التى استمرت مداولاتها إلى ما بعد الثورة، وحكى للنقاش أنه وهو يتقدم لخطبة زوجته كان لا يريد أن يخفى عليها الأمر، لأنه فى أى لحظة من الممكن أن يصدر عليه حكم، وهى قبلت المخاطرة، وتمت تبرئته بعد ذلك، وتم فصله من العمل من وزارة الثقافة سنة ١٩٥٩ ضمن حمله النظام ضد اليسار. وفى مذكراته حكى عن نبل شخصيتين عظيمتين وقفا إلى جواره: «أذكر فى اليوم التالى لإعلان فصلى مباشرة أنى تلقيت مكالة تليفونية، وكان المتحدث هو الصديق الكبير الوفى نجيب محفوظ، وهتف الرجل بى ألا أنزعج أو أغضب، وعرض علىّ أن يساعدنى بكل ما أوتى من قوة، وشكرته لهذه العاطفة، بل ولهذه الشجاعة، فقد انقطع عن زيارتى بعدها الكثيرون من أقرب الأصدقاء، وكأنى وباء، أو مرض يجب تحاشيه والبُعد عنه». النبيل الآخر كان الدكتور محمد مندور الذى ذهب إليه فى بيته، وأرسل سائقه لاستدعائه، فنزل عاشور بالبيجامه، وركب السيارة ليفاجأ بأن مندور يسلمه شيكًا على بياض يحدد فيه المبلغ الذى يريده، شكره بالطبع وأبدى امتنانه ولكنه اعتذر عن قبوله، ولكنه وعده بأنه سيلجأ إليه إذا احتاج شيئًا، بعد شهور قليلة تمكن من العمل فى جريدة «الجمهورية»، واستقر بها من ١٩٥٩ إلى ١٩٦٤، إلى أن صدر قرار بفصله هو والعشرات من كبار الكتاب ونقل بعضهم فى شركات نقل الأخشاب ووزارة النقل، وكان من بين المفصولين طه حسين ومحمد مندور!. بعد جهود شاقة التحق بالعمل فى «أخبار اليوم» والتى ظل يكتب لها إلى آخر أيامه. صاحب مسرحيات: «الناس اللى تحت»، و«المغماطيس»، و«حواديت عم فرح»، و«بطولات مصرية»، و«سيما أونطة»، و«عيلة الدوغرى»، و«الجيل الطالع»، و«بحلم يا مصر»، و«صنف الحريم»، و«وابور الطحين»، و«بلاد بره»، و«برج المدافع»، كان مشغولًا أكثر من غيره بالتاريخ المصرى والتقليب فيه، يبحث عن الصفحات النضالية، واهتم كثيرًا بأبطال الفكر والتنوير، قدم «بشير التقدم» عن الطهطاوى، وتحدث عن الجبرتى وطه حسين وسلامة موسى ونجيب الريحانى، وجورج أبيض ومحمود حسن إسماعيل، وبيرم التونسى ونجيب سرور وصلاح عبدالصبور ومحمد مندور وغيرهم من رموز مصر الساطعة. له مع طه حسين أكثر من حكاية، الأولى وهو طالب فى الثانوى فى الثلاثينيات، عندما ذهب مع أقرانه لحماية الرجل الكبير من أعدائه السياسيين، ومرة ثانية وهو يريد التحويل إلى كلية الآداب، بعد ذلك أثناء اللجوء إليه لإعفائهم من المصاريف التى فرضتها إدارة الجامعة فجأة، وكان العميد قبل تركه مقعده قد أعفاهم منها، وحارب من أجلهم ونجح مسعاه، ومرة استدعاه صاحب «الأيام» لأنه كان غاضبًا من كتابة عاشور بالعامية، ومرة لأجل محاورته وأخرى لإعادة استكتابه فى «الجمهورية»، كل لقاء كتب عنه بروح محبة ورهبة فى كتاب «مع الرواد»، كتابة تشير إلى زمن بتفاصيله ومعاركه. كانت آخر أحزان عاشور قبل رحيله هو رفض المسرح القومى مسرحية له كتبها عن الحملة الفرنسية كان سمير العصفورى يحضر لها معه، وكانت الحجة التى قيلت: «الميزانية لا تسمح».