سيرة عمار الشريعى الملهمة
استمتعت كثيرًا بكتاب صديقنا وزميلنا سعيد الشحات «عمار الشريعى- سيرة ملهمة»، الذى صدر مؤخرًا عن «دار ريشة»، أولًا: لمحبتى للكاتب الذى «يلعب» مع التاريخ فى منطقة مختلفة عن المورخين المحترفين، وعن الذين امتهنوا الرجوع إلى الأرشيف لكتابة موضوعات تخص الماضى وتذكّرنا بأحداث مهمة فيه. «الشحات» يكتب منذ سنوات طويلة فى «اليوم السابع» زاوية «ذات يوم»، بلغة رائقة يجلس خلفها سارد يعيد صياغة الأحداث بحس روائى، تشعر معه بطزاجة الموضوع وأهميته فى الوقت نفسه، وإيقاع وبناء فى غاية الجمال. صدر عن هذه الزاوية عن هيئة الكتاب جزآن يمكن اعتبارهما- مع كتابات الراحل الكبير صلاح عيسى- امتدادًا لمدرسة الجبرتى فى تقصى الوقائع، ولكن بلغة أيامنا. ولسعيد كتابان كُتبا بالروح نفسها هما: «أم كلثوم وحكام مصر، ومذكرات محمد رشدى»، يصبغ عليهما الحس الصحفى المطرز بمحبة المكتوب عنهما. ثانيًا: نجح الكتاب الجديد فى استعادة عمار الشريعى الذى اقتربت منه سنوات طويلة بدأت مع مطلع تسعينيات القرن الماضى، ونتج عنها بعض الأعمال التى أشار إليها الكتاب. نجح الشحات فى استحضار الشريعى الذى أعرفه، بخفة ظله وصوته ولزوماته وحكاياته وعلاقته بالتكنولوجيا الحديثة. أشار الكتاب فى أكثر من موضع إلى سيرته التى نشرت فى مجلة الهلال أيام رئاسة الأستاذ مصطفى نبيل، والتى أملاها علىّ، وكانت بداية تعامله مع الكتابة، فهذا الباب الذى لا يوجد توقيع لكاتبه كان معنيًا بسنوات التكوين لرموز مصر الثقافية والفكرية والسياسية، وسعدت بكتابته مع أكثر من شخصية، مثل المخرج الكبير توفيق صالح والأستاذ محمد عودة والدكتور يحيى الرخاوى وعمار بالطبع وآخرين، فى هذه المرحلة كنت أتردد على الموسيقار الكبير فى بيته العامر فى المهندسين، لا توجد بيننا علاقة عمل، فقط المحبة والونس والموسيقى والبهجة، وكان صاحب فضل لأنه عرفنى على عوالم وشخصيات، وأضاء لى طرقًا كان من الصعب المشى فيها دون مرشد، وبسبب مشاغل الدنيا وقسوتها كنت أنقطع عن التردد عليه لشهور، ولكن حدث أن التحقت بالعمل فى مجلة «الأهرام العربى» التى كانت على وشك الصدور، وكانت تسعى لاستكتاب أسماء بعيدة عن الكتاب التقليديين الذين تعتمد عليهم الصحف والمجلات، ووقع اختيارهم على عمار الشريعى وعبدالرحمن الأبنودى، وللأخير حكاية سأرويها فى سياق آخر. عمار قال لهم الكتابة ليست «كارى»، حاولوا معه مرارًا ولكنه كان يعتذر، وذات مساء كان رؤسائى على موعد معه فى محاولة أخيرة لإقناعه، فطلبت أن أذهب معهم، وكانوا لا يعرفون علاقتى به، ولكنهم فوجئوا بذلك منذ دخولنا العمارة، وترحاب عم شعبان وهو يفتح الباب، وافق على الكتابة أخيرًا، واشترط أن يملى علىّ هذه المقالات، كنت أذهب مرة أو مرتين فى الأسبوع آخر الليل بعد أن يفرغ من عمله كموسيقى، أسجل له، وأفرغ التسجيل، ثم أعود إليه ليضبط إيقاع المقال، أكثر من عام ونصف العام وأنا أقوم بهذه المهمة المبهجة التى كنت أسعى إليها وأستمتع بها، لأننى مع معجزة اسمها عمار الشريعى الموسيقار الحكّاء المثقف الطيب خفيف الظل الموهوب الأهلاوى الإذاعى الأرستقراطى الشعبى، حالة فريدة فى الثقافة والفن، قدر لى أن أجلس إليها سنوات. فى الكتاب تطرق الشحات لمعركة «أبومراد» مع الموسيقار سليم سحاب، والتى تعرض بسببها لهجوم ضارٍ من أصدقائنا الناصريين. فى الكتاب ذكر المؤلف موقف الأستاذ عبدالله إمام المحترم رئيس تحرير العربى الناصرى أيامها، ولم يتطرق إلى الهجوم على عمار فى أماكن أخرى، ولم تكن معركة الشريعى وسحاب شخصية كما تصور البعض، ولا بين مصر ولبنان، هى جدل حول الموسيقى، واعتبر استبعاد أحد مقاطع قصيدة مصر تتحدث عن نفسها موقفًا سياسيًا، بالإضافة إلى رأيه فى التوزيع وهو رأى فنى لم يناقشه المدافعون عن سليم سحاب. الكتاب ملىء بالحكايات الشجية عن طفولته وأسرته وارتباطه بالموسيقى، التى بدأت من أمه التى كان يعتبرها المعلم الأول بسبب إحاطتها بالفلكلور، وخاله حسن صديق رءوف ذهنى المحب لعبدالعظيم عبدالحق، بخلاف مُدرسيه وأساتذته بعد ذلك، ونجح الكتاب أيضًا فى الإحاطة بزمن كامل، وبمسيرة فنان كبير محب للموسيقى، ويسعى لإسعاد الناس. سعيد الشحات بذل جهدًا كبيرًا فى تجميع مادة الكتاب، ولكن حواره مع عمار بعث حميمية وألفة، ونجح فى النهاية فى القبض على عمار برشاقة ومحبة يستحقها الفنان الكبير. هو كتاب ممتع مصنوع على نار هادئة، أسعدنى على المستوى الشخصى لأنه أعادنى شابًا فى مطلع الثلاثينات من عمرى، وذكّرنى بأحباب رحلوا ولكن عطرهم يغمر روحى، باستثناء مشهد أخير كلما تذكرته أشعر بغصة ما، فى إحدى فترات جريدة «الدستور» التى أكتب لها هذا المقال، تفرغ أحد الكتاب بعد ثورة يناير للنيل من عمار، فى هذه الفترة لم يكن لنا أحد نرجع إليه فى المكان، وكان يهاتفنى عمار حزينًا، لأن هذا الشخص تجاوز لدرجة أنه شكك فى وطنيته، وكان ينتظر منى أن أتدخل لوقف هذه المهزلة، وأنا كنت عاجزًا تمامًا عن فعل أى شىء، ومع هذا أشعر حتى الآن بالتقصير فى حق أعز الأصدقاء.