فانتازيا الوشاحى
الفنان الكبير الدكتور عبدالهادى الوشاحى «١١ نوفمبر ١٩٣٦/ ٢٦ أغسطس ٢٠١٣»، هو بلا شك واحد من أعظم النحاتين المصريين، ولم يسلط الضوء على منجزه كما ينبغى، ليس بسبب مؤامرة لا سمح الله، ولكن لأن المواهب الكبيرة لا تروق للموظفين، بعد رحيله بعام استضاف متحف محمد محمود خليل معرضًا استعاديًا له، كان حدثًا ثقافيًا كبيرًا رغم عدم اهتمام الإعلام به، وحاليًا وبعد عشر سنوات يقام له معرض فى جاليرى «فيلا زاد» تحت اسم «فانتازيا الوشاحى»، مستمر إلى يوم ١٠ أكتوبر المقبل، فى زحام الحياة أحيانًا ننسى بعض رموزنا الثقافية، ولكن تذكر «الوشاحى» أسعدنى جدًا هذه الأيام، ليس فقط بسبب منزلة الرجل الكبيرة كفنان تجاوزت شهرته المحلية إلى العالمية، ولكن لأنه كان صديقًا مبهجًا اقتربت منه سنوات طويلة فى سهراتنا فى وسط البلد أو فى الأتيليه الذى كان يعمل فيه فى «أرض اللواء».
الذين حالفهم الحظ وعرفوه عن قرب، يعرفون أنه كان محافظًا على الطفل الذى بداخله، يطل بكامل أناقته كل ليلة لينشر البهجة، كان شاربه الذى يشبه شارب سلفادور دالى علامة بصرية تميزه عن الآخرين، وصوته الحاسم الآمر وهو يتعامل مع سائقى التاكسى أو الجرسونات يشعرك بأنك أمام إمبراطور قادم من أزمنة قديمة، وسيعرف الذين لا يعرفونه أن الرجل لم يقصد إهانة أحد بعد ظهور ابتسامته الآسرة بعد ذلك، كان يقول دائمًا «أمارس النحت كمضاد حيوى لأحافظ على إنسانيتى».
رحل «الوشاحى» وترك أعماله شاهدة على نقاء الفن المصرى، تمثال طه حسين العبقرى نفذ رغم تعنت بيروقراطية وزارة الثقافة أيامها، ترك لمساته فى متحف الفن الحديث، والمتحف الحربى، والمركز الدولى للمؤتمرات، ودار الأوبرا، ومتحف دنشواى، ومترو الأنفاق، والأكاديمية المصرية فى روما، ومبنى جريدة الأهرام، ترك عنوانًا ناصعًا للفن المصرى فى متاحف إسبانيا وإيطاليا، أعماله كما قال الناقد الإسبانى راؤل شكارى فيرى تشكل بلاغة وعضوية ومعمارية كونية مثل أجزاء من النحت المصرى القديم، وأحيانًا تتسم بالدائرية فى تناغم وفخامة النحت الإغريقى، كان الوشاحى يعتبر أن من أسباب قلق وتوتر المصريين عدم وجود أعمال صرحية فنية حقيقية فى الميادين، ويقول إنه لو لم يمارس النحت لدخل النار، لأن الإبداع نعمة ومنحة من الله للبشر، وتفوق إنسانى يجب الحفاظ عليه، وأن العين يجب تدريبها على رؤية الأشياء الجميلة، الفنان الكبير تم تسجيل اسمه فى موسوعة كامبريدج كأحسن نحات دولى فى ٢٠٠١، كان عنوانًا للنقاء، وارتبط إبداعه بالحداثة، ودافع عن قضايا الحرية، كان صديقًا لتلاميذه، وضعيفًا تجاه الموهوبين، عاش مستقلًا كما أراد، كان يرى أن المثّال هو المالك الشرعى للفراغ بما يؤكد عظمة فن النحت ودوره كتشكيل فى الثقافة البصرية والارتقاء بالذوق والتذوق.. وأيضًا تخليد الرموز القومية.. إلا أنه وحتى الآن لم يأخذ حقه فى هذا الإطار، فليس هناك ميدان واحد فى القاهرة، بل وخارجها، يقف فيه أحد تماثيل الفنان الوشاحى.. هذا على الرغم من أن المثّال الكبير له ثلاثة تماثيل بإسبانيا يعتز بها شعبها، أولها النصب التذكارى «إلى الفلاح» بفالينسيا عام ١٩٦٩، وتمثالان آخران، أحدهما بالهيئة الأوليمبية الإسبانية بمدريد عام ١٩٧٥ والثانى تمثاله بنادى ريال مدريد بعد ذلك بعامين، سُئل مرة: لماذا اخترت طه حسين وتفرغت له لعمل تمثاله الذى صاحبته مشاكل كثيرة؟، أجاب: لأنه رمز للفكر المستنير، ورمز لحرية الإبداع.. عملته بحب، ومثلما يكون الفراغ له حضور ووجود يمثل طه حسين الحضور فى الحيزين المادى والمعنوى، ويمثل بالنسبة لى الخبرة الحياتية والثقافية، وقبل كل ذلك تلك اللحظة التى تجمع بين الوعى واللا وعى أو اللا شعور، والتى يظل فيها الباب مواربًا على حرية الإبداع. تمثاله لعميد الأدب تمثال استشراف غريب، بما يحمل من فكر، جسده جالسًا فى استطالة وشموخ بنظرة تأمل تطول رقبته يكاد يهم من فرط التطلع.
صبحى الشارونى قال إن «الوشاحى» يتجه إلى تحقيق نوع من التوازن المبهر للمشاهد فى تماثيله، فهو يتعمد أن يقيم أعماله على أساس «الهرم المقلوب» أو «المسلة المرتكزة على إبرتها» فيختار لتماثيله نقطة ارتكاز، ثم يبنى فوقها الشكل الذى تتسع قمته ويظل متوازنًا.. إنه يجتذب المشاهد عندما يجسد أمامه معجزة الاتزان، تمامًا كما يبهر لاعبو السيرك مشاهديهم بهذه المعجزة.. ألف رحمة ونور على روحه.