رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضحايا تيار الحداثة فى النقد الأدبى

إلى وقت قريب كان نقادنا الكبار يحلمون بتثقيف القارئ، لا اللحاق بذائقته، وكنا نقرأ لغالى شكرى ورجاء النقاش وعبدالقادر القط وعلى الراعى وعلاء الديب وجابر عصفور وصلاح فضل، وغيرهم، مقالات نقدية تراعى قارئ الصحف بعيدًا عن صرامة النقد الأكاديمى، وهناك من ينشر فى مجلات مثل شكرى عياد الذى كان يكتب فى الهلال، المدرسة التى أسسها يحيى حقى فى النقد، وتميز خريجوها بأنهم أصحاب لغة سهلة ورشيقة وودودة، تشعر معها بالألفة، يعامل أصحابها النص معاملة العاشق للوردة، لا معاملة الجرّاح للجسد، يسلط الضوء عليها فتزداد جمالًا، وتختلط مشاعره مع مشاعر المبدع، وتكاد لا تفرق بين من كتب النص ومن كتب عنه. تيار الحداثة فى النقد كان سببًا فى ابتعاد أبناء هذه المدرسة أو إبعادها. هذا التيار الذى اعتبر التراث عبئًا، وأنهم ينبغى أن يفكروا مثل الغرب، وبالتالى إقناع القارئ بتفوق مفكريه. قال الدكتور مصطفى ناصف إن طه حسين سُئل يومًا عن الحدث الذى أسف عليه أشد الأسف، فقال: «إنه اليوم الذى ألقيت فيه عمامتى فى البحر»، يقصد أنه اليوم الذى تخلص فيه من ثقافته التراثية التى كانت العمامة رمزًا لها، وعميد الأدب العربى هو أستاذ ناصف، ولكن أمين الخولى، أستاذه الثانى، كان الأقرب إلى قلبه، وهو الذى وجهه إلى دراسة البلاغة العربية، وأشرف على رسالته للماجستير، «بلاغة عبدالقاهر الجرجانى»، والدكتوراه «البلاغة عند الزمخشرى». الخولى هو صاحب مقولة «أول التجديد قتل القديم فهمًا»، ويرى الدكتور محمد عبدالمطلب أن تجليات مصطفى ناصف قد بلغت ذروتها عندما استعاد العقيدة النقدية لأستاذه طه حسين الذى كان من أوائل من أقدموا على قراءة النص قراءة ثقافية، ومن أوائل الذين تنبهوا إلى أثر الثقافة فى تكوين القوالب الاجتماعية والاقتصادية، كان يعتبر النص عبارة عن مجموعة من الثغرات تمثل فراغات يجب على القارئ الناقد ملؤها وإعادة بنائها بالقراءة الفاعلة المنتجة، يقول ناصف: «القصيدة عالم مكتفٍ بنفسه، يحتاج إلى أن يطرق بابه طرقات متعددة قارئ قوى ورقيق معًا، حتى يؤذن له بالدخول، ولكننا مع الأسف لا نعيد الطرق، ولا نكرر محاولة الاستئناس والاستئذان، ولا نثق فى أن عالم القصيدة مغلق وعسير، وبعبارة أخرى لا نجاهد فى سبيل كسر الحواجز الفاصلة وإقامة جسور أخرى عامرة بالألفة والاتصال»، وكأنه يؤكد كلام العميد: «هناك ناس يعيبون الأدب العربى دون أن يفصحوا عما يريدون، وهم لم يقرأوا الأدب العربى قراءة حسنة»، والشيخ أمين الخولى كان الأقرب أيضًا إلى شكرى عياد، وهو الذى أشرف على أطروحتيه فى الماجستير والدكتوراه، الأولى «يوم الدين والحساب... دراسات قرآنية أدبية»، وكانت عن الأساليب البلاغية للقرآن الكريم على وجه الخصوص، وأما الثانية فقد كانت عن تأثير كتاب أرسطو طاليس عن «فن الشعر» فى البلاغة العربية والنقد العربى القديم على السواء، و«عياد» حوصر بسبب موقفه المستريب من تيار الحداثة العربية، الذى صنع نجومًا فى النقد تلهث خلفهم الصحف والمنتديات فى العواصم العربية، وكان يرى أن الحداثة العربية ثورة النخبة التى تعتمد على بطولات فردية، يمكن أن تتجه ‏إلى تدمير النظام القديم، ولذا يصبح من الطبيعى أن التعبير الفنى عنها يأخذ شكل ‏الرفض القاطع للتقاليد الفنية السابقة، بل رفضًا لفكرة التقاليد نفسها، وتأكيدًا للحركة ‏المستمرة فى الفن، ومن هنا تتشكل خطورتها لديه على التراث العربى، ومن ثم على ‏الهوية العربية، وكان يرى أن الحداثيين العرب يجمعهم شعور حاد بسقوط الحلم العربى، والعجز ‏المطلق عن الحركة الفاعلة، كتب فى مقدمة كتابه «الرؤيا المقيدة»: «إن أديب هذا العصر الذى حوصرت حريته من كل جانب، يدركُ أن الفن هو أسمى فعل من أفعال الحرية يُمكن أن يأتيه الإنسان، وهو أوضح بصيرة من سلفه الرومانسى الذى كان يتوهم أن شخصيته جوهر غريب نادر لا يخضع لشىء من مواصفات المجتمع إلا مرغمًا، وأن الفن هو وسيلة للفِكاك من هذه المواصفات. أديب هذا العصر يعلم أن شخصيته نتاج مجتمعه، وأن كل ما يتلقاه من أفكار ومشاعر هو من صُنع هذا المجتمع، حتى فنه هو أيضًا صورة لمجتمعه». الدكتور محمد عبدالمطلب هو الآخر لم تعجبه مقولة إن «البلاغة علم قد احترق» ولم يعد صالحًا، وبعد رحلة مع المنجز الغربى فى نظريات ومناهج الحداثة، كتب كتابه «بناء الأسلوب فى شعر الحداثة»، الذى طبق فيه علم البديع «الذى يقول عنه المتحذلقون إنه علم متخلف» على الشعر الحديث، ليثبت أن كثيرًا من مصطلحات الحداثة ليس إلا تعديلًا للمصطلح العربى القديم، النقد بالنسبة له هو مناقشة الأمر فى ضوء شرطه التاريخى، لأن معظم مقولات النقد الجديد تغفل هذا الشرط، ويتصور البعض أن النقاد القدامى يجب أن يقولوا ما يقولونه هم الآن، فهو يرى أن الأسلوبية عند الجرجانى أدق من الأسلوبية الوافدة، وأن البنيوية التى افتخروا بها وروج لها أبناء جيله ماتت سنة ١٩٦٨، لأنها حولت النص الأدبى إلى نص لقيط بلا آباء وبلا أبناء، ولم تنجح التفكيكية أيضًا لأنها نظرية فلسفية وليست نقدية. ‎