جمال الجمالية
حين تضيق الدنيا أذهب إلى القاهرة الفاطمية، حيث السكينة والصفاء فى رحاب سيدنا الحسين، أسباب قديمة تدفعنى إلى الذهاب، أتحرك كالأطفال فى المكان كأننى أستعيد طفولة فُقدت فى رحلة العمر بين تجاعيد المدينة. لم أُولد فى الجمالية، ولكننى أعتبر نفسى ابنًا من أبنائها، وأشعر بأننى هناك منذ مئات السنين.
عشت فى حارة حوش قدم فى الغورية فى الجانب الآخر سنوات كثيرة، ولم تزل علاقتى بالمكان وناسه، أو ممن بقى منهم، ممتدة، لى ذكريات مع الظل والضوء وطرقات الصنايعية، وخيالات الزجاج المعشق ورائحة العطور والتوابل، والمطاعم المدفوسة فى الماضى ورائحة الناس، سنوات طويلة مع منطقة الجمالية جعلتنى صديقًا لكل العابرين الذين يشعرون بالوحشة مثلى.
لى صداقات عريقة فى خان الخليلى والصالحية تحديدًا، حيث الجلوس مع الأحجار الكريمة والأشخاص الذين يشبهونها، لكل محل وورشة أكثر من طريق، ولم أسلك الطريق الذى جئت منه وأنا أترك المكان، أذهب إلى هناك مهمومًا وحزينًا، وأعود خفيفًا كأننى تخلصت من ثقل كبير على القلب، بدأت صداقاتى منتصف ثمانينيات القرن الماضى مع نخبة من أعز الأصدقاء، سعيد عبدالمقصود وسمير الحجراتى ومحمود توفيق، وفيما بعد فتحى السيسى.
سعيد هو أكبر موسوعة فى الأحجار الكريمة فى مصر، يعرف دهاليزها، ويمشى وراءها فى الجبال، ويدافع عن المصرى منها، خصوصًا الفيروز، أتردد عليه بانتظام فى مكتبه بخان جعفر، وبينى وبينه حوارات لا تنتهى عن الغناء وكرة القدم والأحجار، سافرنا كثيرًا معًا إلى شرم الشيخ والإسكندرية، وتعرفت من خلاله على عوالم ومهن وأشخاص فى غاية الجمال، بينهم بائع كتب قديمة كان يمتلك محلًا صغيرًا فى خان جعفر يقع فى مواجهة زقاق الأتراك، اسمه عم سيف، كنت أجلس إليه بالساعات، أصغى إليه وهو يتحدث عن الطباعة وتطورها وأنواع الورق والمخطوطات، المحل لا يوجد به غير عينات مما يملكه فى مخزن ضخم فى «بشتيل».
عم سيف الذى رحل قبل عشرين عامًا شخص لا يمكن نسيانه، ولا أحد يعرف مصير الكنوز التى كان يمتلكها، وحين أمر على المكتبة المغلقة منذ رحيله أتذكره وأشعر بحزن شفيف، وأتذكر واقعة كنت شاهدًا عليها، هو كان بين الحين والآخر يأخذ كتابًا ويعطيه لسعيد عبدالمقصود ويحدد هو سعره، مرة أعطاه كتابًا قديمًا وقال له «هات ٥٠٠ جنيه»، وجلس سعيد يقلب فيه ولم يفهم فيه شيئًا، استغرب الموقف، بعد ساعة ذهب إليه وأخذ الكتاب مرة أخرى دون أن يتحدث فى شىء، ثم عاد مرة أخرى وفى يده مظروف به نقود وتركه وانصرف، كان به ثلاثة آلاف جنيه، نزل إليه سعيد يستفسر عن الأمر، ليعرف أن الكتاب كانت تحتاجه باحثة أوروبية ودفعت فيه المبلغ، وقال له معتذرًا إنه حاول أن يبيعه بمبلغ أكبر ولكنه فشل، وإن ملكية الكتاب لم تعد له، ورفض أن يأخذ مليمًا من فلوس الزبونة، لأنه باع الكتاب لصالح مالكه الذى هو سعيد.
جانب آخر عن علاقتى بالجمالية كان صاحب الفضل فيه الأستاذ جمال الغيطانى، رحمة الله عليه، كان يأخذنا فى جولات فى المكان الذى يعرفه عز المعرفة ليحدثنا عن العمارة وتاريخ كل مسجد وسبيل، يستدعى تاريخ البنائين العظام الذين شيدوا هذه الصروح، ولا تخلو حكاياته من خبرة حياتية أيضًا بجوار التاريخية. من أحب الشخصيات إلى قلبى وإلى قلب كل أصدقائى كان سمير الحجراتى، الذى قطعنا معًا رحلة طويلة فى ليل القاهرة، كان يمتلك ورشة فى الصالحية، شهدت سهرات مبهجة ضمت أصدقاء من كل الاتجاهات، من ممثلين وشعراء وكتاب روايات ومغنين ورسامين وصحفيين من نجوم المجتمع.
كان شخصًا بسيطًا ومبهجًا، فى سنواته الأخيرة لم تكن أموره المادية على ما يرام، فترك الصالحية وانتقل بمعداته إلى شقة فى شارع الجيش، لم يكن فيها سحر المكان القديم، ولكنها عامرة بالمحبة والكرم، كان متخصصًا فى الفرعونى وله سمعة طيبة للغاية، لدرجة أنه كلف من قبل الدولة بصناعة قلادة سيتم إهداؤها لزوجة الرئيس الفرنسى ميتران فى أسوان، قلادة تحاكى قلادة توت عنخ آمون الشهيرة.
شهدت فى هذه الفترة صناعة القلادة وما صاحبها من حكايات، الدراما التى صبغت حياته فى السنوات العشر الأخيرة تستحق أن تكتب فى رواية. رحل سمير قبل أقل من أربع سنوات، رحل فجأة ولم أعرف إلا بعد شهرين، وشعرت بأننى فقدت جزءًا عزيزًا من عمرى، وأصبحت أخاف من العبور من «التخريمة» التى تأخذنا من ميدان بيت القاضى إلى الصالحية، والتى تشم فيها رائحة الطعام، لأنك تعبر وسط أناس يسكنون المكان إلى جوار الورش، نفس الإحساس بالفقد شعرت به حين عرفت بخبر رحيل فتحى السيسى بعده بشهور، وفتحى كان يملك طيبة قديمة وشهامة، كان آخر لقاء بيننا فى الليلة الكبيرة لسيدنا الحسين قبل وباء كورونا بشهرين، كانت «خدمة» سعيد فى تلك السنة فى درب الطبلاوى، وذهبت وبصحبتى أكثر من عشرة أصدقاء، عرّفهم فتحى بنفسه على أنه شقيقى الأصغر، وأكرمهم بمحبة وترحاب يتذكره إلى الآن أصدقائى، ويحكى هشام أصلان عنه كلما التقينا.
بعد رحيل سمير وفتحى ومرض محمود قل ترددى على الملاعب التى كنت أرتادها لما يقرب من أربعين عامًا، ولكن الحنين للمكان لا يزال موجودًا، قبل يومين ذهبت لصلاة الفجر فى الحسين، وخرجت والشوارع خالية أتمم على الأماكن التى لى فيها ذكريات مع البهجة والونس والطمأنينة والسكينة والطيبة.. وفى النهاية غلبتنى دموعى.