بليغ حمدى.. لحن "عشش جوه البيوت"
بليغ حمدي ولِدَ في مثل هذا اليوم عام 1932، والذي وصف موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، موهبته بأنها "جبَّارة" وأن الله "يُنعِم عليه بجُمل غنائية عبقرية"، ومما يعكس صدق رؤية عبدالوهاب لبليغ، أنه استطاع أن يُبدع ألحانًا وموسيقى لكل الأجيال التي عاصرها بدءً امن أم كلثوم وصولًا إلى الحجَّار ومنير وسميرة سعيد.
"الفوضوي المنظم".. ربما يكون أدقّ وصف لألحان بليغ حمدي المتجدد في كل ألحانه، بدايةً من أم كلثوم، مرورًا بنجوم الطرب المصري والعربي: حليم، شادية، رشدي، وصولًا إلى الحجار وعفاف راضي وسميرة سعيد.
"بليغ" الذي أحدث نقلة نوعية في الموسيقي العربية والجملة اللحنية، فجعلها ترضي جميع الأذواق، وهو الذي نزع عن الموسيقى تعاليها النخبوي، حتى إن ألحانه صارت علامة مسجلة للبهجة كما الشجن. فحتى يومنا هذا ما زالت الأغنيات والألحان التي كانت قصرًا على فئات معينة، يترنم بها الشباب من فئات عمرية ربما لم يسمعوا عن من هو بليغ حمدي، وليس من المستغرب أن تجد أطفالًا يترنمون بـ"مولاي" ملحمته العبقرية للنقشبندي.
بليغ الذى جدد شباب صوت الست
الملايين من عشاق كوكب الشرق أم كلثوم يستطيعون بسهولة ويسر أن يضعوا "آذانهم ومشاعرهم" على الفارق بين أم كلثوم قبل وبعد بليغ حمدي، والتي قدَّم لها 11 لحنًا منذ العام 1960 "حب إيه" وحتى 1973 "حكم علينا الهوى".
خلال هذه الرحلة التي ناهزت 13 عامًا، أحدث بليغ حمدي طفرة في مسيرة أم كلثوم، بجمله اللحنية التي صارت جزءًا لا يتجزأ، بل تكاد تكون عمود خيمة الأغنية، فقد تنزع منها الكلمات، لكن يبقى اللحن منفردًا نردده وتهتز مشاعرنا معه، يتردد داخلنا، يقفز بداوخلنا هنا أو هناك، بمناسبة أو دون، لا لشيء سوى أن بليغ مزج قطعة من روحه في كل لحن قدَّمه لنا فصار جزءا من التاريخ الشخصي لكل من تماهى معه.
وربما كان هذا يعود لبساطة جمل بليغ اللحنية وتعقيدها في آن، كما في أغنيات فات الميعاد، حكم علينا الهوى، الحب كله، وغيرها مما قدمه لكوكب الشرق، فصارت ألحانه للجميع، تعبر عنهم، عن أفراحهم، كما عن شجونهم، من “البيه” “للهانم” للمثقف والفنان، و"للأسطوات" كخلفية يومية لمشاهدهم الحياتية لا يمكن انتزاعها منها، وهو ما نلمسه في تجوالنا اليومي، مقاهٍ، ورش، “دكاكين”، شرفات تصدح منها ألحانه، فتيات يحطمن قيود فرضت على أجسادهن فتنطلق معبرة عن بوح الروح عبر ألحان بليغ.
ورغم كل ما قيل وتردد من أقاويل وحكايات عن اللقاء الأول بين أم كلثوم وبليغ حمدي لأول مرة، ما بين أنها أعجبت بأول جملة لحنية قدمها لها، وبين من يذهب إلى أنها قللت من شأنه لصغر سنه، إلا أن المؤكد أن اللقاء الأول كان بترتيب من العظيم محمد فوزي، الذي اقترح عليها اسم بليغ وقدمه لها ليلحن لها أغنية كانت قد طلبتها الست من فوزي.
على قد ما حبينا.. أيقونة الحجار وحجره الأساس
"على قد ما حبينا وتعبنا في ليالينا.. الفرحة في مشوارنا تاني هاتنادينا". في العام 1977، انطلق صوت علي الحجار بلحن بليغ الذي قدمه للجمهور في حفل عام، والذي ذكر عنه الحجار في أحد لقاءاته أنه كان يرتعش رهبة من مقابلة الجمهور لأول مرة، إلا أن بليغ ــ المحتضن له ــ بث في روحه الطمأنينة بنظراته المؤمنه بموهبته وصوته، فكانت انطلاقة الحجار في عالم الفن والطرب. حتى يصلا سويًا لـ"اللي بنى مصر" لتصبح هي الأخرى بدورها علامة مسجلة بصك بليغ حمدي عن حلاوة الهوية والاعتزاز والفخر بمصريتنا.
وعلى نفس المنوال، قدم بليغ حمدي، موهبة عفاف راضي لأول مرة في العام 1975 في لحنه “يمكن علي باله”، لتنطلق مرحة شجية متسائلة قلقة، نرددها حتى يومنا وحتي بين من لا يعرفون أن اللحن لبليغ أو أن الحنجرة التي تحمله لعفاف راضي.
وفي العام التالي ــ 1978 ــ يقدم بليغ لحنه الأول لسميرة سعيد، “توهة” من كلمات عبد الرحيم منصور، والذي كون معه ثنائيا فنيا شكل حالة وجدانية للملايين، على اختلاف أذواقهم وانتماءاتهم، أو ميولهم وتفضيلاتهم حتى يومنا هذا. فضلا عن عدد كبير من الأغنيات التي صنعت شهرة سميرة سعيدة، ومن أبرزها “عشش جوة البيوت، مناديل الوداع، علمناه الحب، عزيزة ويونس، وغير ذلك.
عدوية ينازع أم كلثوم بليغ البليغ
أحدثت أخبار تعاون بليغ حمدي مع “عدوية” في سبعينيات القرن العشرين مفاجأة كادت تصل لحد الصدمة. فكيف لمن قدم الروائع لكوكب الشرق أن يلحن لمطرب شعبي اعتبر وقتها من علامات إفساد الذوق العام، وإعلان لإنحدار الموسيقي والفن المصري. إلا أن التعاون الذي خرج في العام 1975 واستمر حتي العام 1993 خيب توقعات المتعالين على “الناس” وحقق عدوية انتشارا ساحقا، ووصلت ألحان بليغ لفئات أخرى تميل للون عدوية الشعبي البسيط المعبر عنهم، والذي يرونه صوتهم الطالع من بينهم المتحدث بحيواتهم.
النقشبندى الذى خسره الغناء
"مولاي إني ببابك قد بسطت يدي، من لي ألوذ به إلاك يا سندي".. ابتهالات النقشبندي، أو لنقُل إنها نداءاتنا جميعًا إلى المولى.
النقشبندي وعبر بليغ يحمل نداءات أرواحنا وقلوبنا إلى السند والمعين الأول والأخير، ليجبرنا ويضمد أرواحنا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال لأي من تلقي نفحات النقشبندي/ بليغ أن يتخيل أنها عصارة لروح غيرهما، ولا كان لأي موسيقى غير البليغ أن ينسج هذه “الدانتيلا” الرهيفة، حتى وقع في غرامها الشيخ سيد النقشبندي الذي خسره الغناء وكسبته أرواحنا وأشواقنا إلى السند من لا يخذلنا.
بليغ وشادية حالة مزج صوفى "شقية"
شكَّلت شادية مع بليغ حالة مزج صوفي "شقية" ولا تتعجب من التعبير، فهكذا أراه، فصوت شادية الحاني الأمومي، المطعم بشقاوة البنات وقتما يطلقن ضفائرهن للريح يبعثرها ويلقيها في شباك الأحلام الوردية عن فتي الأحلام والحصان الأبيض.
كل هذه المعاني حملتها ألحان بليغ ولونتها في صوت شادية بالعشرات من الأغنيات، بالهداوة، مكسوفة منك، آه يا أسمراني اللون، الحنة الحنة المستلهم التراثي الذي صبغه بليغ ببصمته وكأنه له ولم يكن له صاحب فصار مرتبطًا في الوعي الجمعي باسميهما، بليغ وشادية.
ولا ننسى التجربة المسرحية الوحيدة لشادية ــ ريا وسكينة ــ والتي كان من أبرز علامات نجاحها حتى الآن و"حفظنا" لألحانها بفضل الفوضوي المتمرد بليغ حمدي، والذي امتدت عبقريته الموسيقية إلى العشرات من الأفلام السينمائية التي وضع لها الموسيقى التصويرية، ومنها "شىء من الخوف، الزمار، نار الشوق، ابنتي العزيزة، أبناء الصمت، عودة الابن الضال، وغيرها العشرات.