فى الذكرى 101 لرحيل فنان الشعب.. سيد درويش يواصل انتصاراته: «موسيقانا مملوءة بالخيرات»
خرج من بين أبناء الشعب المصرى، وإليهم عاد بمجموعة من الأغانى والألحان الخالدة، جاءت فيها كل أطياف المجتمع، من الحشاشين حتى ماسحى الأحذية، فكان من الطبيعى أن يتوجوه بلا منازع أو منافس بـ«فنان الشعب».
إنه الفنان الكبير الراحل سيد درويش، الذى أحدث ثورة فى الموسيقى، ليس المصرية فحسب، وإنما الموسيقى العربية ككل، بإجماع مؤرخى ونقاد الموسيقى وباحثيها، حتى صار يؤرخ للموسيقى العربية بظهوره على ساحتها، وتحيى «الدستور» الذكرى ١٠١ لرحيله.
ولد سيد درويش فى ١٧ مارس ١٨٩٢، داخل منزل متواضع فى حى «كوم الدكة» بالإسكندرية، لأب نجار. وفى السابعة من عمره مات والده، وتولته والدته بالرعاية، وفق ما ذكره مجايله وصديقه محمد سامى نور، ضمن مقال نشره فى مجلة «الفن» عام ١٩٥٨، فى الذكرى الثلاثين لرحيل «فنان الشعب».
تعلم القراءة والكتابة فى مكتب أحمد الخباشى فى كوم الدكة، ثم انتقل إلى مدرسة حسن أفندى حلاوة، فلبث فيها سنتين، ثم أخذه صديقه وأستاذه الشيخ محمد على خاطر إلى المعهد العلمى فى نفس المدينة، وظل فيه ثلاث سنوات. بعدها أخذ ينشد قصة المولد النبوى. وبدأ أيضًا منذ ذلك الوقت يدرس علم الأنغام والموازين وقراءة النوتة الموسيقية، وتفانى فى الدراسة حتى أصبحت كل شىء فى حياته.
كانت هذه الخطوة الأولى، ثم تبعتها خطوة أخرى، حين سافر إلى الشام مع فرقة جورج أبيض، بصفته ملحنًا للفرقة، فى عام ١٩١٢. وكان قد سافر مرة أخرى قبل ذلك. وفى الرحلتين التقى موسيقيين أكرادًا وسوريين وغيرهما، وحفظ عنهما أنغامًا وموازين.
استغرقت الرحلة الأخيرة عامين عاد بعدهما إلى الإسكندرية، ثم انتقل فى العام نفسه إلى القاهرة، وبدأ الناس يستمعون منه إلى لون موسيقى لم يألفوه، فقد كانت موسيقى سيد درويش تختلف عن الموسيقى السائدة فى عصره، فيها تجديد وابتكار، فى روح الموسيقى وتركيبها وطريقة إنشائها.
لكنّ ملحنى عصره أساءوا استقباله وحاربوه، وفق محمد سامى نور، الذى التقاه يومًا منفعلًا، قبل أن يقول له: «أسمعت ما يقولونه عنى؟»، فقال له: «خير؟»، فقال «الشيخ سيد»: «يقولون إننى أفسدت الموسيقى، ومسختها وجعلتها موسيقى غربية، وذلك لأننى خرجت عن طريقة ألحانهم ولم أتبع خطواتهم، التى يحبسون أنفسهم فيها منذ خمسين عامًا»، ثم سكت قليلًا، وقال: «إن موسيقانا غنية ومملوءة بالخيرات»، قبل أن ينشد قول حافظ إبراهيم: «أنا البحر فى أحشائه الدُر كامن، فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى؟»، ويضيف: «ومع ذلك ثق أننى سأعيش من أجل الموسيقى، وسأحارب فى سبيلها كل مكابر جاهل، وسأضحى بحياتى».
ياسمين فراج: أدخل آلات النفخ النحاسية والبيانو وتميز باستخدام الإيقاعات الشعبية
قالت الدكتورة ياسمين فراج، الأستاذ بالمعهد العالى للنقد الفنى فى أكاديمية الفنون، إن الفترة التى ظهر بها سيد درويش، وهى الربع الأول من القرن العشرين، كانت الفترة التى تعتمد فيها الموسيقى على آلات التخت العربى لمصاحبة الغناء، وتتكون من العود والقانون والرق أو الطبلة.
وكان أثر سيد درويش، وتحديدًا فى أغنياته للمسرح، أن أدخل آلات النفخ النحاسية والبيانو لمصاحبة الغناء فى بعض الأغانى المسرحية، وهذه تعتبر نقلة، بجانب استخدامه الإيقاعات الشعبية بجميع أنواعها.
وأوضحت أنه «لم يترك حتى الإيقاعات النوبية التى استخدمها فى الأغنيات باللهجة السودانية أو النوبية أو جنوب مصر عمومًا، واستخدمها فى بعض ألحانه، وكان بارعًا فيما يعرف بالتصوير النغمى، بمعنى أن المسار النغمى يعبر عن الكلمة، مثل المثل الشهير (عشان ما نعلى ونعلى لازم نطاطى نطاطى)، فكلمة نعلى صعد بها النغمة، والعكس لما قال نطاطى، التى نزل بها إلى أغلظ نغمة ممكن يؤديها الصوت الذكورى».
نفس الشىء فعله فى أغنية بمسرحية تتحدث عمن يأتون من السودان للعمل فى مصر، وأحوالهم السيئة، فقال فى الجزء الذى يعبر فيه عن أسباب مجيئهم: «أهئ أهئ أهئ»، فهبط بالنعم على كلمة «أهئ»، على أساس أن الحالة النفسية لمن يبكى تكون متدنية، فصورها بالنغمة الهابطة، ليعبر بالنغمات عن الكلمة، وفق أستاذة النقد الفنى.
وأضافت الدكتورة ياسمين فراج: «مثلما قدم أغنيات وطنية خرجت من المسرح، وانتشرت فى شوارع مصر، كانت أيضًا وسيلة الترفيه والتثقيف الأساسى، بجانب الراديو. وأيضًا قدم أغنيات فيها جرأة شديدة، مثل دويتو (على قد الليل ما يطول)، التى غيّر نصها الشعرى الأصلى، الذى كان يقول (شفتى بتاكلنى أنا فى عرضك.. خليها يا روحى تبوس خدك)، لتتناسب مع الغناء».
وواصلت: «كما أن فترة سيد درويش كان فيها انفتاح وليبرالية أكثر من فترة ما بعد ١٩٥٢، التى أُغلقت قليلًا على مستوى الغناء، وصار التحفظ سمة أساسية فى الفن وقتها»، مستشهدة على ذلك بتقديم سيد درويش أغنيات مثل «تقول أبويا نايم»، التى تدعو فيها سيدة حبيبها إلى المنزل، لعدم وجود أحد فيه، وغيرها.
وأكملت: «تلك الفترة كانت تسمح بأغنيات تحتوى على كلمات من هذا النوع، وهو ما لم يتوافر لمحمد عبدالوهاب مثلًا، الذى كان يسمى مطرب الملوك، ومثل هذه الطبقة لا يصح غناء الكلمات الشبيهة بأغانى سيد درويش أمامها».
وتابعت: «سيد درويش كان دائم الميل إلى مخاطبة الشرائح الكادحة فى المجتمع، على عكس محمد عبدالوهاب، الذى رغم حبه الشديد لسيد درويش، لم يسمح المجتمع، الذى غنى فيه، إلا بأخذ القليل من درويش».
وبالنسبة لتأثر زكريا أحمد بسيد درويش، قالت أستاذة النقد الفنى: «تركيبة الجملة اللحنية لزكريا أحمد، خاصة ألحانه الأولى فى بدايات ظهوره، كانت تتشابه كثيرًا مع تركيبة الجملة اللحنية عند سيد درويش، وتحديدًا فى قوالب الطقطوقة والمنولوج».
محمد صالح: كانت ألحانه ممتدة ومنسابة كالنهر ولا يتوقف حتى يصب فى بحر الموسيقى والإبداع
قال الموسيقى الكاتب محمد صالح إنه من بين الحكايات اللطيفة التى رواها له المايسترو ناير ناجى، قائد الأوركسترا المرموق، أنه، أى ناجى، وفى أثناء دراسة استمرت أربع سنوات بكلية الهندسة جامعة عين شمس، وقبل التحاقه بكونسرفتوار بطرسبورج واحترافه الموسيقى، تعلم إلى جانب الحس الهندسى والتفكير العقلانى المنظم سحر الحاسوب، الكمبيوتر.
وأضاف، والكلام لا يزال على لسان «ناجى»: «كان لدىّ حاسوب آلى صغير، أهدانى إياه والدى، رحمه الله، وكان معه كتاب ضخم يشرح كيفية عمله وإمكاناته المتنوعة، وتعرفت وقتها على لغة البيسيك Basic للبرمجة، وتمكنت من تصميم برنامج يساعدنى فى حل ٦ مسائل فى مادة الميكانيكا، كان حل المسألة الواحدة يستغرق ما يقرب الساعة، وأنشأت البرنامج فى ساعة ونصف أو ساعتين، بعدها لم يستغرق حل المسائل الست، أكثر من ٥ دقائق. وهذا هو الفرق بين بيتهوفن والشيخ سيد درويش».
وأوضح صالح أن سيد درويش تعرف على بديع خيرى، الذى كان أشهر من نار على علم، وكانت أغنية الشيخ سيد «دنجى دنجى» قد نالت من الشهرة مبلغها، فقال له بديع خيرى «لاااا... إنت لازم تتعرف على ناس من اللى هى بجد!».
وأضاف: «اصطحب خيرى صديقه درويش إلى والد الممثلة لولا صدقى، وكانت حينها تظهر فى أفلام الثلاثينيات من القرن الماضى، وكان رجلًا من علية القوم، يرتاد دار الأوبرا الخديوية، ويستمع إلى ما تيسر من فيردى وبوتشينى وغيرهما من مؤلفى ذلك القالب الغربى المعقد، وكان على دراية معتبرة بالثقافة الأوروبية، ولا أظن أن الشيخ سيد نام ليلتها، حين استمع إلى فيردى، كموسيقى شديد الموهبة والعذوبة، وحين لمس بأذنه ما يمكن أن يصنعه التوزيع الأوركسترالى المكتوب، ومعنى أن يتنوع اللحن بين النسيج الصوتى للآلات، ويتكسر ويتفرع على قواعد الصوت والصوت المصاحب والصوت المضاد، وحين رأى ذلك الشيخ سيد، أدرك تمامًا ما ينقصه».
وتابع: «كانت تلك هى اللحظة التى تعرّف فيها الشيخ سيد على سحر الحاسوب، الذى كنت أتحدث عنه، بمعنى أن ما يفصل الشيخ سيد وألحانه عن أوبرا عايدة وفيردى هو تلك التكنولوجيا، تلك الثقافة الممتدة عبر قرون من تراكم الثقافة الغربية من مونتيفيردى وتيليمان وباخ حتى هايدن وبيتهوفن وموتسارت، وصولًا إلى فيردى وبوتشينى، وتوصل الشيخ سيد بحدسه وعبقريته لذلك المنتج الثقافى المسمى الأوركسترا، والأوبرا والهارمونى والكونترابنط، وحينها سأله والد لولا صدقى: هل تستطيع أن تأتى بمثل هذا؟ فرد الشيخ سيد: نعم، لكننى لا أستطيع التوزيع للأوركسترا».
وواصل صالح: «كتب سيد درويش الفصل الأخير من أوبريت شهرزاد بما يشبه طريقة كتابة بيلينى، وطلب من موزع أن يصيغ أعماله بتلك الطريقة التى استمع إليها يومًا، ولم يكن التدوين وحده هو ما وقف عقبة أمام رحلة الشيخ سيد الإبداعية، كان التدوين هو الخطوة الأولى فى طريق الألف ميل وآفاق الموسيقى، بمعنى أن التدوين الموسيقى يعنى شيئين: الأول هو إمكانية المراكمة على ما حدث بالأمس أو أمس الأول أو منذ قرنين من الزمان، وكذلك المراكمة على ما يحدث فى مكان آخر من العالم، فاللغة الموسيقية واحدة، يشترك فيها المصرى والصينى والروسى والأمريكى، والثانى هو أن التدوين يتيح الفرصة للحذف والقص واللزق والمدّ والتقصير وكل ما تشاء من ألعاب استنادًا لأن ما تسمعه أصبحت تراه، وما تراه أصبحت تسمعه. وتلك العلاقة المتبادلة بين المسموع والمقروء هى ما تتيح لنا رؤية اللحن، وبالتالى تدقيقه ورصده ونقده والحديث عنه بالإحداثيات».
واستكمل: «ما وددت أن أشير إليه بشأن عبقرية الشيخ سيد هو امتداد ألحانه، التى يمكن أن تصل إلى ٢٠-٣٠ مازورة (وحدة النص الموسيقى)، وذلك هو اللحن فقط، بمعنى أن سيد درويش كان طويل النفس على نحو غير معقول، وكل عدد ضئيل من تلك الموازير، ٤-٥ موازير، كان من الممكن أن يكون نواة لحركة من سيمفونية أو عمل كبير بأكمله، لهذا نشعر بأن اللحن لدى موتسارت أو بيتهوفن هو لحن مربع أو مثلث أو مستطيل، له شكل وقالب وبداية ونهاية، أما لحن الشيخ سيد فتسمعه ممتدًا ومنسابًا كالنهر، ولا يتوقف حتى يصب فى بحر الموسيقى والجمال والإبداع».
يوسف عباس: أعماله جسدت الروح الوطنية وعكست الواقع الاجتماعى والسياسى
رأى عازف العود العراقى يوسف عباس أن سيد درويش قدم موسيقى تجسد الروح الوطنية والثقافية لمصر فى تلك الفترة، واستخدم ألحانًا جديدة وإيقاعات مبتكرة تعكس الواقع الاجتماعى والسياسى، وعمل على دمج الأساليب الموسيقية الشعبية مع الأنماط الغربية بشكل ذكى، ما أعطى موسيقاه طابعًا عصريًا وثوريًا.
أما بالنسبة للثورة الفكرية، والكلام على لسان عباس، فقد أسهم درويش فى نشر الوعى الوطنى من خلال أغانيه التى تتحدث عن القضايا الاجتماعية والظلم، وأعماله كانت تعبيرًا قويًا عن الرغبة فى التغيير.
وأضاف أن سيد درويش ألف ولحن العديد من الأغانى التى تعبر عن معارضة الاستعمار، من أبرزها «بلادى بلادى» التى أصبحت نشيدًا وطنيًا لمصر، والتى كانت تعبيرًا عن المقاومة وتأكيد الهوية الوطنية. ومن أبرز الأغانى التى قدمها سيد درويش والتى حركت الجماهير بشكل غير اعتيادى، «زورونى كل سنة مرة»، وهذه الأغانى كانت تعبر عن التطلعات الوطنية وتثير الحماس فى نفوس الناس. وبشكل خاص كانت مؤثرة لأنها عبرت عن رغبة الشعب فى تحسين أحواله، كما كانت تدعو إلى وحدة الأمة وتعزيز الشعور الوطنى.