غزة.. العودة لحدود 7 أكتوبر
مصر قالتها عالية: «لا للتهجير»، وعاد سكان غزة إلى بيوتهم فى كل أرجاء القطاع، عادوا ولو بعد حين. كنت أتمنى أن أحمل معهم ما تبقى من أمتعتهم وأشيائهم فى رحلة العودة سيرًا على الأقدام. أسراب الطيور المهاجرة من جنوب القطاع إلى الشمال مشهد انتظرناه طويلًا على مدار خمسة عشر شهرًا من الانتقال والتنقل بين الخيام والعيش فى العراء. تحملوا ويلات الحرب والدمار والشتات. هم ليسوا طيورًا هاجرت إلى الجنوب وفقًا لقانون الطبيعة، إنهم بشر لهم حق الحياة على أرض وطنهم، أجبرهم العدو الغاشم المحتل الإسرائيلى على المغادرة، وكان الهدف من وراء هذه الهجرة مغادرة القطاع بلا رجعة، وقدمت الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة «بايدن» مقترحات لوطن بديل، وتحديدًا «سيناء» المصرية، مقترح وقف الجميع ضده، لا سيما أن العين والقصد ونية العدو كانت على مصر، فجاء الرد على هذه المزاعم قولًا فصلًا بأن «سيناء خط أحمر»، وفى تعبير آخر للكاتب الصحفى «إبراهيم عيسى»: «سيناء دم أحمر».
حين أدركت إسرائيل ومن خلفها هذه الحقيقة الدامغة التى لا تقبل النقاش، أن «سيناء خط أحمر.. دم أحمر»، تعالت أصوات من يعيشون فى تل أبيب وضواحيها المغتصبة بأن حياتهم باتت فى خطر ولم ينالوا خيرًا من حربهم الظالمة على غزة. طالبوا بعودة أسراهم وحتمية وقف الحرب التى خسرتها إسرائيل. وعلى الصعيد العربى، كان الموقف الحاسم، حيث لم تتوقف الوساطة العربية بقيادة مصر عن مطالبة المجتمع الدولى عامة، والقيادة الأمريكية الجديدة خاصة، بضرورة وقف إطلاق النار وإعلان هدنة تحفظ حقوق سكان غزة.
فى اليوم التالى للحرب، أو بالأحرى سريان الهدنة المبرمة مؤخرًا برعاية مصرية قطرية، تابعنا جميعًا فى كافة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى، رحلة العودة إلى شمال القطاع.. العودة إلى حدود ما قبل 7 أكتوبر 2023، حيث محافظات القطاع المختلفة. هنا، على العالم أن يقر ويعترف بالدور المصرى وموقف الشعب والجيش والقيادة المصرية التى توحدت إرادتها وسجلت للتاريخ موقف مصر الداعم والمؤيد للقضية الفلسطينية بإطلاق مبدأ «لا للتهجير، لا لخروج السكان من غزة، لا للمساس بسيناء». هذه «اللاءات الثلاث»، منذ بداية الحرب على غزة، كانت خارطة الطريق، ولولا هذه «اللاءات» لضاعت القضية الفلسطينية. وعلى التاريخ أن يعقد المقارنات بين قرار التهجير فى 1967، وقرار التهجير فى 2023، والتداعيات فى كلتا الحالتين.
معظم المصريين فى حالة تواصل مع سكان غزة المهجرين على مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية، نسأل عن أحوالهم ونطمئنهم أن بعد العتمة نور، وبعد الليل يجىء النهار. تواصلت هاتفيًا مع «أم طارق» وهى تودع خيمتها فى «رفح»، حملت معها ما تيسر من أمتعة، خرجت فجر الثلاثاء الماضى، فكيف كان طريق العودة؟ وصلت «أم طارق» برفقة عائلتها سيرًا على الأقدام من الصباح حتى المساء، وصلت منزلها فى «محافظة غزة» شمالًا، وجدت أهل الخير من جيرانها فى حراسته لعام مضى. بالقرب من مدخل بيتها تفاجأت بـ»جمجمة» رأس إنسان يبدو أنه استشهد منذ زمن ولم يجد من يوارى جسده التراب. بالطبع لم تعرف قصته، غير أنه فلسطينى رفض أن يخرج من وطنه وقرر الاستشهاد. البيوت من حولها أصابها الدمار، حيث آثار الحرب طبعت بصماتها على المكان. تذكرت «أم طارق» تصريحات «نتنياهو» للغزاويين: «إن لم تخرجوا طوعًا من غزة فلن نتركها صالحة لحياة البشر». لقد دمرت إسرائيل البنية التحتية، فلا مياه ولا شبكة صرف، وآثار الدمار مخيفة ومرعبة، إنها أماكن موحشة، فشلت السينما العالمية فى تصميم ديكور لأماكن الرعب كما هو الوضع فى غزة.
هكذا قالت «أم طارق»، وأخبرتنى عن بعض المشاهد الإنسانية أثناء عودة ذويهم من كبار السن والمرضى العائدين بوسائل نقل سيارات أو حافلات، حيث كانت نقاط التفتيش وفقًا لبنود الهدنة برعاية مصرية قطرية. كان فى استقبالهم الوفد المصرى، حيث قدم لهم الحلوى والمشروبات وكلمات الدعم. «أم طارق»، فى معرض حديثها، قالت: «ماذا نفعل لو غاب الدور المصرى عن مساندتنا؟ كيف كان مستقبلنا؟». إنها الحرب الأعنف والأشرس التى عرفتها فلسطين على مدار 76 عامًا مضت منذ اندلاع القضية الفلسطينية.
الركام والهدم والمشهد الموحش وآثار الحرب جعلت قطاع غزة غير صالح للحياة.. العائدون بلا مياه شرب أو طعام أو صرف صحى.. تقطعت بهم سبل الحياة، ولكنهم باقون على أرضهم. القرار العربى يجب أن يكون موحدًا، لا سيما أن الإدارة الأمريكية من الحزب الجمهورى تختلف كثيرًا فى إدارتها وعلاقتها بالخارج الأمريكى عن الإدارة الأمريكية من الحزب الديمقراطي. من هذا المنطلق، يجب على الجامعة العربية وعلى العرب كافة أن يتكاتفوا جميعًا، وأن تتوحد كلمتهم من خلال برنامج وخطة قابلة للتنفيذ فى إعادة إعمار غزة. ليس هناك مستحيل، فقد قهر سكان غزة العدو الصهيونى فى أبشع حرب تعرضت لها فلسطين، رافعين شعار «باقون على أرض وطننا فلسطين». عاشت فلسطين، عاش الشعب الفلسطينى على أرض وطنه الغالى.