المصالحة الكبرى بين الدين والدراما فى معرض الكتاب
لو أتاح لى القدر فرصة تدوين الأحداث التاريخية المهمة لوقع اختيارى على هذه الندوة الفريدة التى أقيمت قبل يومين على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته الدورة الـ 56 تحت عنوان «الفتوى والدراما»، وتأتى أهمية هذه الندوة من وجهة نظرى فى موضوعها الذى يحاول أن يشق جدار الجدلية القائمة منذ عقود طويلة بين الدين والدراما، ويعقد التوافق والمصالحة بينهما، فهل يؤمن علماء الدين بدور الفنانين والمبدعين، وعلى الجانب الآخر هل يقدر الفنانون الاعتبارات الشرعية والفقهية أم يرونها قيودًا على الإبداع؟
ثم يأتى بعد ذلك ما يجعل هذه الندوة حدثًا تاريخيًا بالفعل، وهو أن دار الإفتاء المصرية هى من تبنت تنظيم هذه الندوة بجناحها القائم فى المعرض هذا العام، أى أن المستضيف والداعى لإزالة اللبث بين الدين والفن وتحقيق التقارب الذى يخدم مصلحة المجتمع مؤسسة دينية كبرى لها وزنها واعتبارها فى مصر والعالم الإسلامى وأقصد هنا دار الإفتاء،
والأهم أن مفتى الديار المصرية الأستاذ الدكتور نظير عياد كان جالسًا ضمن الحضور والمدعوين فى الصف الأول أمام المنصة وليس فوقها، وهو ما يعكس قيمة رمزية كبيرة للغاية، تتمثل فى ترك ساحة النقاش حرة بين الطرف الممثل للفقه والشريعة والطرف الممثل للفن والدراما والإبداع، وكأن الدكتور نظير عياد يريد أن يبعث رسالة مهمة مفادها بأن المؤسسات الدينية، ومن بينها دار الإفتاء المصرية منفتحة ومستنيرة، ولديها استعداد لتفهم رسالة الفن الهادف الذى يرسخ القيم الفاضلة والأخلاق ودعمه والوقوف خلفه، وهو بالفعل حدث لم يتكرر من قبل فى تاريخنا الحديث.
ومن الأسباب أيضًا التى تدخل هذا الحدث من أوسع بوابات الذاكرة الإنسانية أن طرفى الندوة فوق المنصة قطبان يندر أن يجود الزمان بمثلهما، أو هما فى مقدمة من نتباهى بهم من الرموز الفذة فى مصر، فهم نياشين على صدر الوطن، الأول فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور على جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ورئيس لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب ومفتى الديار المصرية الأسبق والحديث عن سماحته يحتاج لمجلدات لا حد لها.
فهو حجة زمانه، وهو العلامة الجهبذ المرجعى الراسخ فى العلوم الدينية والشرعية والفقهية، وهو الرمز الصوفى المستنير الذى يجاهد من أجل إظهار الصورة الحقيقية للتصوف الإسلامى المستنير، أما الطرف الثانى فهو الفنان القدير الأستاذ محمد صبحى، وقد تعرفت عليه عن قرب منذ سنوات طويلة حين استضفته فى حوار مهم أمام جمهور ساقية الصاوى، وهو يمثل جامعة فنية بذاته، وهو أيضًا ميناء لسفن الفن المحترم والإبداع الملهم.
ويعتبر واحدًا من أهم الفنانين المبدعين أصحاب التاريخ الفنى الناصع، والرسالة الهادفة المؤثرة فى التاريخ المصرى الحديث، ولا أكاد أبالغ إذا قلت إن الندوة كانت عبارة عن لقاء قمة بين جهبذين من جهابذة الفلسفة والفكر الإنسانى الرائد، ورغم أننى أعرف أيضًا عن قرب الدكتور على جمعة وأدرك أنه عالم موسوعى كبير، وأعرف حسه الفنى والإبداعى الكبير، حيث كانت دار النشر التى يملكها هى الناشر لروايتى الأدبية المهمة «من ينام فى قايتباى»، فإننى فوجئت باطلاعه البالغ على مختلف مناحى الفن والدراما إلى الحد الذى يرتقى للنقد الفنى القائم على العلم والرؤية الثاقبة.
وقد أوضح فضيلته أن العلاقة بين الدين والدراما أمر ينتابه التشابك والتداخل، وأنه لم يأت لهذه الندوة ليحكم على تلك العلاقة، بل ليدفع بأسباب تطويرها وتوطيدها وتكاملها، مؤكدًا أن الأمر ليس فقط إعطاء فتوى أو حكم بالجواز أو عدم الجواز، بقدر ما يريده لهذا البلد الرائد الذى عاد إلى مكانته الأولى فى أن يسعى لتطوير وتحسين هذه العلاقة الجدلية بين الفن والدين. وكان من المدهش أن الدكتور على جمعة لفت الانتباه إلى ملاحظاته حول الأفلام المصرية، حيث لاحظ أنَّ هناك أخطاءً متكررة فى تلاوة القرآن الكريم، وأن هناك تحريفًا غير مقصود فى بعض المشاهد التمثيلية، كما أشار إلى أن بعض المفاهيم الخاطئة قد ترسَّخت فى الدراما، مثل فكرة أن الرجل لا يستطيع تطليق زوجته إذا جعل العصمة فى يدها، بالإضافة إلى إظهار رجل الدين فى صورة سلبية دائمًا فى الأعمال الدرامية، وهو أمر يتطلب تصحيحًا، مؤكدًا أنه لديه دراسة قام بها لعدة سنوات تابع فيها الأعمال الدرامية والسينمائية، واستخرج منها هذه الملاحظات المخالفة لصحيح القرآن والشريعة والسنة النبوية.
ثم بهرنى الأستاذ الكبير محمد صبحى فى حواره واحترامه الشديد والواضح للدين والشريعة، وأوضح أن دور الدراما يقوم على الخيال لنقل الواقع، وأن الفن الصحيح يوجه رسالةً دون المساس بالأخلاق التى أتى بها الدين، مشيرًا إلى أهمية احترام الشخصيات الدينية فى الأعمال الفنية، كما دافع عن حرية الفن الهادف، وأوصى بعدم تقييد الفن طالما أنه لم يتجاوز الأخلاق التى دعا إليها الدين، واقترح إنتاج برامج وأعمال درامية هادفة تُعرض فى أوقات مناسبة للأسرة، ويمكن أن تكون بالتعاون مع دار الإفتاء والمؤسسات الدينية الأخرى.
ومما أضاف إلى هذا اللقاء الفكرى متعة مُضافة تلك الإدارة المهنية لأحداث الندوة من الإعلامى العزيز شريف فؤاد، الذى تمتع بعمق ثقافى وفكرى كبير فى أسئلته المهمة والمنظمة والمدروسة التى وجهها لضيفيه الكبيرين ما أحدث فى هذا اللقاء زخمًا كبيرًا وهمًا، وكان العزيز شريف فؤاد نجمًا من نجوم هذا الحدث بما يليق بمكانهة ضيوفه، أما فضيلة الدكتور نظير عيَّاد، مفتى الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم فله كل الشكر والتقدير على هذه المبادرة التى تفتح باب المصالحة بين الدين والفن الهادف بصفة عامة، وبين الدين والدراما بصفة خاصة.
وكان واضحًا أن دار الإفتاء أحسنت تنظيم الحدث ولفت نظرى لقطة أراها تاريخية أيضًا ومعبرة عن الطريق الجديد الذى سيسلكه معًا الدين والدراما الهادفة، وهى اللقطة التى اصطحب فيها أحد مشايخ دار الإفتاء الفنان محمد صبحى منذ دخوله لمعرض الكتاب وحتى الوصول به إلى جناح دار الإفتاء بالمعرض، فالعمامة اصطحبت الفن أمام الآلاف من رواد المعرض فى ذلك اليوم فى مشهد يعلن عن فتح صفحة جديدة.
ولا يفوتنى اعتزاز الدكتور نظير عياد بالمفتى الأسبق الدكتور على جمعة والإثناء عليه وعلى علمه، وتقديمه على أنه أستاذه ومعلمه، ثم أخيرًا ما ركز عليه مفتى الديار المصرية من أن الفتوى لا يمكن أن تكون مجرد رأى عابر، بل هى مسئولية شرعية تستند إلى الدستور الإلهى ومصادره الموثوقة، وعلى المسلمين الرجوع إلى علماء الدين المؤهَّلين الذين يجمعون بين المعرفة الدينية العميقة والفهم الواقعى لقضايا العصر، وشدد على أهمية تقديم محتوى إعلامى وثقافى يُسهم فى بناء الإنسان ويحترم القيم الأخلاقية.
حقا.. مشهد عصرى.. فريد.. لا يعكس إلا قدر مصر العظيم.. ولوحة جميلة من المواءمة والفكر والوفاء والاحترام.