26 يناير 1952 «2-3»
يعتبر ٢٦ يناير ١٩٥٢ بحق هو اليوم المشهود فى تاريخ مصر المعاصر. وقد استعرضنا فى المقال السابق تصاعد الأحداث قبيل ذلك اليوم، من إلغاء معاهدة ١٩٣٦، وتصاعد حركة الكفاح المسلح فى منطقة القناة ضد الوجود البريطانى، المتمثل آنذاك فى القاعدة العسكرية البريطانية. ورأينا رد الفعل الإنجليزى المُبالغ فيه، واعتداء الجيش على قوات البوليس المصرى فى مدن القناة.
لكن الحدث الأكبر هو ما حدث فى يوم ٢٥ يناير عندما حاصر آلاف الجنود الإنجليز، تدعمهم العربات المصفحة والدبابات، مبنى محافظة الإسماعيلية. وكعادة الصلف الإنجليزى، تم إرسال رسالة تهديد: الاستسلام أو الموت! لم تكن قوة الجانب المصرى تُقارن بعدة وعتاد الجيش الإنجليزى، لم يكن هناك سوى ألف جندى من بلوكات النظام، شبيه الأمن المركزى الآن، بسلاح خفيف. وفى نهاية الأمر اتصل القائد المصرى بفؤاد سراج الدين، وزير الداخلية فى القاهرة، ليعرض عليه الأمر. ولم يجد فؤاد سراج الدين بديلًا عن المقاومة، لأن بريطانيا لم تتوقف فى المرات السابقة مع انسحاب قوات الشرطة. لذلك أصدر أمره بالمقاومة والتعامل مع الاعتداء البريطانى، حتى آخر طلقة.
وكانت المعركة بكل المعايير العسكرية غير متكافئة: جيش أقوى دولة فى العالم فى مواجهة قوات شرطة بسلاح خفيف. وبدأت المعركة بإطلاق القوات البريطانية نيران المدفعية والدبابات على مبنى المحافظة. ووفقًا للمصادر الرسمية، قاومت الشرطة المصرية وأطلقت على العدو البريطانى ما يقارب مليون طلقة رصاص. وانتهت المعركة باستشهاد ٧٠ شرطيًا مصريًا، ومصرع ٤٠ عسكريًا بريطانيًا. وتذكر المصادر البريطانية مدى احترام القائد البريطانى، كقائد عسكرى يفهم الشرف العسكرى، لصمود الشرطة المصرية، وتعامل مع القوات المصرية معاملة كريمة، وليس كأسرى حرب، وخرجت القوات المصرية من مبنى المحافظة دون أن ترفع أيديها.
وسرعان ما وصلت أنباء هذه المعركة إلى القاهرة؛ حيث رفض العاملون فى مطار ألماظة خدمة طائرة بريطانية مدنية كانت تعتزم الهبوط فى مطار القاهرة. وخرج عساكر بلوكات النظام، الشرطة المصرية، فى مظاهرة كبرى احتجاجًا على ما حدث لزملائهم فى الإسماعيلية، وتوجهت مظاهرتهم إلى جامعة القاهرة، حيث التحمت مع الكتلة الطلابية ليبدأ الحراك الثورى فى القاهرة احتجاجًا على انتهاك السيادة المصرية على أيدى الجيش الإنجليزى فى الإسماعيلية.
بدأت المظاهرات سلمية، ولكن رويدًا رويدًا تحولت إلى العنف، لا سيما مع وصول هذه المظاهرات إلى منطقة وسط البلد؛ حيث بدأ إحراق العديد من المؤسسات الأجنبية ودور السينما والملاهى والفنادق، وامتد الحريق إلى سينما ريفولى وسينما مترو، وفندق شبرد وفندق متروبوليتان، والعديد من الحانات والبارات، وبنك باركليز الإنجليزى، ويقدر البعض أنه تم إحراق حوالى ٣٠٠ منشأة فى وسط القاهرة.
وإزاء ذلك لم يجد النحاس بُدًا من فرض الأحكام العرفية «حالة الطوارئ»، وأخيرًا تم صدور أمر بنزول الجيش إلى العاصمة، حفاظًا على ما تبقى، ولعودة الأمن من جديد. وسارع الملك فاروق باستغلال الحدث، وقام بإقالة حكومة الوفد الأخيرة، ليفتح الباب على مصراعيه لحالة عدم الاستقرار، التى ستؤدى إلى ٢٣ يوليو ١٩٥٢.