المصريون فى غزة.. شهود على حرب شرسة لا تهدأ (ملف)
في صباح السابع من أكتوبر الماضي، انفجرت غزة بصواريخ وطائرات مسيرة، تنطلق من قلوب المقاومين الفلسطينيين، لتضرب مواقع العدو الإسرائيلي، الذي اعتدى على المسجد الأقصى وجرح المصلين، كانت هذه الهجمات جزءًا من عملية سُمِّيت بـ"طوفان الأقصى"، للدفاع عن الحرم الشريف والأرض المقدسة، لكن ردة فعل إسرائيل كانت عنيفة ومدمرة، فشنَّت حملة قصف واسعة على قطاع غزة، مستهدفة كل شيء حي أو جامد، سواء كان مبنى حكوميًا أو إعلاميًا أو مدنيًا.
وسط هذا الجنون الحربي، يحاول المصريون في غزة البقاء على قيد الحياة والحفاظ على أملهم بالسلام. يتصلون بأهاليهم في مصر عبر الهاتف أو الإنترنت، ويتابعون الأخبار عن فتح المعابر، ويرجون أن يسافروا إلى وطنهم قبل أن يصبح الوقت متأخرًا، ومنهم أيضًا من يشارك في العمل الإنساني والتطوعي لمساعدة المتضررين من الحرب، وإغاثة المصابين والجرحى.
ضرْبَة مُوجعة
في ليلة مظلمة من ليالي الحرب، كانت آلاء يونس أبو العمرين تستمع إلى صوت الانفجارات والطائرات والصواريخ، التي تمزق سماء غزة وتهدم بيوتها وأحلامها. كانت تدعو الله أن يحفظ أهلها وأحبابها، الذين يعيشون في منزل آخر بنفس المدينة، وتتمنى أن تراهم قبل أن يأخذهم الموت، كما أخذ والدها قبل ثلاثة أشهر.
ولكن القدر كان له رأي آخر. فجر الإثنين الماضي، استهدف القصف الإسرائيلي المجرم منزل ذوي آلاء، حيث كان يتواجد به والدتها حياة خليل وخالتها وشقيقتها وشقيقها وزوجته وثلاثة أطفال أبناء شقيقها، وأيضًا خالتها القادمة من مصر في زيارة لوالدتها؛ من أجل تعزيتها في والد آلاء. كان من المفترض أن تعود خالتها إلى مصر في اليوم التالي، لكنها لم تعد إلى شىء.
كان من المفترض أن يكون منزل ذوي آلاء ملاذًا للحب والسلام، لكنه تحول إلى ركام ودماء، وكُل من في المنزل صاروا شهداء في سبيل الحرية. كان من المفترض أن تكون آلاء سعيدة بزيارة خالتها، لكنها صارت حزينة لفقدانها.
"أنا متزوجة في مكان آخر بنفس المدينة، وخالتي المصرية، هويدا خليل الدسوقي، كانت تزورنا في القطاع لأول مرة، قادمة من محافظة بورسعيد، لكنها توفيت في القصف قبل يوم واحد من موعد عودتها إلى مصر”، تقول آلاء بعبارات مكسورة.
"كل من كان متواجدًا في المنزل استشهد، يا ليتني كنت معهم لأنول شرف الشهادة"، هكذا تضيف آلاء بعيون دامعة.
"الأوضاع الآن في كامل غزة صعبة للغاية، الكهرباء مقطوعة تمامًا، والماء والمخابز تقريبًا توقفوا بنسبة 70%، القصف بكل مكان لأحياء كاملة، وهناك إبادة جماعية ما أن يحل المساء تبدأ، القصف بشكل عشوائي برًا وبحرًا وجوًا، لا أحد يعرف أين الأمان، الناس التجأوا لمدارس الأونروا، الأشلاء بكل مكان وعدد الشهداء يزداد كل لحظة، كما تم قصف مساجد وجامعات وجمعيات"، تروي آلاء مشاهد الموت في غزة.
وتختتم بعبارة مؤثرة: "ابن أخي إلى الآن تحت الأنقاض، عمره 3 سنوات ونصف، وأطقم الإسعاف لا تستطيع العثور عليه، نحن نعيش أقسى لحظات حياتنا، الموت هو ملاذنا الوحيد للهروب منها".
ليالي الهروب
في قطاع غزة المحاصر، يعيش أحمد حسن، مصري مقيم في فلسطين، حالة من القلق والخوف، بعد أن اندلعت الحرب الإسرائيلية على القطاع في 7 أكتوبر 2023. يقضي أحمد أيامه في الحرب متنقلًا بين مدن وشوارع القطاع، بحثا عن مأوى آمن له ولأسرته، لا يحاول التفكير سوى في شئ واحد فقط: "متى وكيف سيعود إلى مصر؟".
أحمد حسن هو مصري الجنسية، وجاء إلى غزة قبل سنوات للزواج من فلسطينية، ولم يستطع العودة إلى مصر بعد اندلاع معركة “طوفان الأقصى”، تم إغلاق المعابر والحدود، وبقي عالقًا في غزة دون جواز سفر مصري، لم يستطع الحصول على تأشيرات خروج لزوجته من السلطات الفلسطينية، ولم يجد تجاوبًا من السفارة المصرية في رام الله.
"الوضع مأساوي للغاية لكل شخص يعيش في غزة، مجازر يومية على مدار الساعة، تدمير المنازل على أصحابها دون سابق إنذار، سيقتلوننا جميعًا، الوقت ينفذ يا أمة العرب، كل يوم الأوضاع تزداد سوءًا"، يصف أحمد المشهد لـ "الدستور".
يضيف أحمد: "أنتم ترون الصورة بشكل مباشر في التليفزيون، يستخدمون علينا الأسلحة المُحرمة دوليًا، ويجربون علينا الأسلحة الجديدة برعاية أمريكية بحتة، القنابل العنقودية والفسفورية تحرق كل من في طريقها".
ولكن هذه ليست المشكلة الوحيدة التي يواجهها أحمد، فهو يشعر بالقلق على عائلته التي تعيش في رفح، على الحدود مع مصر. والدته وأشقاؤه الثلاثة هم مصريون، كانوا متجهين إلى مصر يوم 9 أكتوبر الماضي، حتى تم ضرب معبر رفح، والآن هم عالقون على الحدود، لا يستطيعون الخروج، يشعرون بخوف شديد مما هو قادم؛ بسبب التهديدات الإسرائيلية المتكررة لقصف معبر رفح.
أحمد لا يستطيع أن يكون مع عائلته في هذا الوقت القاسي، فهو برفقة زوجته وأولاده داخل منطقة أبراج الكرامة بغزة. كان يأمل أن يسافروا جميعًا إلى مصر، فطبيعة السفر من غزة تتطلب أن تكون مسجلًا ضمن كشوفات وزارة الداخلية، وهناك آلاف المسجلين بهذه الكشوفات وسط الحرب الدائرة.
"من المفترض أن كل من يحمل الجنسية المصرية يكون له الحق في دخول مصر هو وزوجته وأبناؤه، حتى وإن لم يكن لزوجته وأبنائه جوازات سفر، خاصة في ظل الأحداث العدوانية التي نعيشها الآن"، هكذا يطالب أحمد.
يطالب "أحمد" الجهات الرسمية المصرية بالتدخل الفوري لإنقاذ ما تبقى من الجالية المصرية والشعب الفلسطيني من هذه الحرب، التي ستقضي على الإنسان والحجر والشجر، وستحرق غزة عن بكرة أبيها، من له ذنب ومن ليس له ذنب.
يعبر أحمد عن شعوره في الختام: "في هذه المحنة والمواقف الصعبة التي نشتم فيها رائحة الموت كل يوم، فمن الطبيعي أن يكون هناك مسؤولين يخافون على من يخصونهم، بأن يحموهم من كل هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان".
كابوس مُرعب
في هذه الليالي المرعبة، كانت "أم مؤمن" تحتضن أربعة من أولادها في زاوية من زوايا منزلها المتهالك، وتستمع إلى صوت الانفجارات والطائرات والصواريخ، التي تملأ سماء غزة وتهز أرضها وتدمر بيوتها وأحلامها. جاءت الأم المصرية إلى غزة قبل سنوات للزواج من فلسطيني، والآن هي عالقة في المدينة المحاصرة.
تعاني "أم مؤمن" من مرض تصلب متعدد، وتحتاج إلى علاج كيماوي في مصر، لكنها لم تجد طريقة للخروج من غزة، خصوصًا بعد إغلاق المعابر والحدود بسبب الحرب الدائرة في قطاع غزة، وتروي "أم مؤمن" لـ "الدستور" قصتها المؤلمة، وتطلب من الحكومة المصرية إنقاذها وإنقاذ أولادها من الموت.
تقول السيدة المصرية بصوت متقطع: "أنا في غزة وعايزة اطلع أنا وولادي على مصر، أنا مصرية، لازم أسامينا تكون في كشف الداخلية عشان نقدر نسافر".
وتستطرد: "تعرضنا لمجزرة في معسكر جباليا، وشارع الترنس تم إبادته، عشرات الشهداء تحت الأنقاض، رأيت بأم عيني كيف يقتلون ويسحلون الناس، سمعت صرخات الأطفال والنساء في كل مكان، شعرت بالخوف والحزن، وخاصة على أولادي، الذين يعيشون حياة قاسية تحت الحصار الإسرائيلي".
وتختتم "أم مؤمن" حديثها: "الحمد لله جميعنا بخير إلى الآن، لكن لا يوجد كهرباء نهائيًا، نستخدم شموعًا أو فوانيس صغيرة، الماء نادر للغاية، المأكولات باهظة الثمن، المستشفيات مزدحمة، ولا يوجد دواء كافِ، كل شيء صار صعبًا ومستحيلًا".
أنقذونا من الجحيم!
تسود حالة من الهلع والفزع بين المصريين الذين يقطنون في القطاع، بعد أن شنت إسرائيل حربًا عليهم منذ 7 أكتوبر الماضي. يشهدون يوميًا مشاهد الدمار والموت، التي حوّلت حياتهم إلى كابوس. من بينهم صقر إبراهيم نور الدين، الذي جاء إلى غزة قبل عام ونصف، للالتحاق بأسرته التي تعيش هناك منذ سنوات، هكذا يروي صقر لـ "الدستور" قصته المؤلمة، وكيف يحاول النجاة هو وأهله من الحرب.
يقول "صقر": "أنا جئت إلى غزة في 28 أغسطس 2022، كان من المفترض أن نعود جميعًا إلى مصر بعد الحرب الدائرة، لكن تم إغلاق المعابر والحدود، وبقينا عالقين في غزة دون جوازات سفر مصرية، ولم نستطع الحصول على تأشيرات خروج من السلطات الفلسطينية، ولم نجد تجاوبًا من السفارة المصرية في رام الله".
ويضيف: "كان حالنا حالًا حتى اشتعلت الحرب، وبدأت إسرائيل بقصف غزة بلا رحمة، وأصبحنا نستيقظ على صوت الانفجارات والطائرات، منذ تلك اللحظة، لم نجد مأوى آمنًا، فالقصف كان عشوائيًا ولا يستثني أحدًا".
"حضرت حروب سابقة لكن لم تكن كهذه، سنموت جميعًا إذ لم تتدخلوا لإنقاذنا"، يستغيث صقر.
ويوجه نداءً عاجلًا إلى الحكومة المصرية والرئيس عبد الفتاح السيسي، لإجلاء المصريين من غزة: "عودتنا إلى مصر هي مسؤولية وزارة الخارجية، نحن نطالب بإصدار جوازات سفر مؤقتة لأولادنا، وإخلاء سبيلنا من هذا الجحيم، نحن نريد أن نعيش بسلام وأمان في بلدنا، ونرى أبناءنا الآخرين في القاهرة، الذين لم نرهم منذ فترة طويلة، نحن نرجوكم، لا تتركوننا وحدنا في وجه الموت".
القصص السابقة تعتبر مشابهة لقصص العشرات من المصريين العالقين في غزة، الذين يعانون من الحصار والحرب، قصص لم تلقَ الاهتمام الكافي من وسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية، ولم تجد حلًا عادلًا وإنسانيًا. قصص تستحق أن تُروى وتُسمع، لأنها قصص لأبناء مصر، يحلمون بالعودة إلى أرض الكنانة.