صمويل بيكيت.. طعنة من متشرد فى صدره كانت سببًا لـ"فى انتظار جودو"
تحل غدًا ذكرى رحيل الكاتب الشهير صمويل بيكيت مؤلف الرائعة المسرحية "في انتظار جودو"، حيث توفى في 22 ديسمبر من عام 1989.
مجلة الثقافة
وفي تقرير نُشر بمجلة الثقافة عام 1964 تحدث لطفي فام عن بيكيت، يقول: "في سنة ١٩٢٨ كان يعيش في غرفة بالقسم الداخلي بمدرسة المعلمين العليا التي تقع في شارع "أولم" بالحي اللاتيني في باريس، شاب أیرلندي لم يتجاوز اثنين وعشرين عامًا، ولد سنة ١٩٠٦، كان قد بدأ دراسته في دبلن بكلية «ترينتي»، ثم قبلته مدرسة المعلمين العليا بباريس كطالب أجنبي، فكان يقوم بتدريس اللغة الإنجليزية، لزملائه الفرنسيين الذين يدرسون استعدادًا لمسابقة "الأجرجاسيون"، في هذه اللغة، لم يتعرف إليه سوى القليل من الطلاب، لأن عدد المعنيين بدراسة اللغة الإنجليزية لم يكن كبيرًا، وكان هو بطبيعته يميل إلى الانطواء على نفسه، هذا إلى أن طريقته في مساعدة زملائه كانت غريبة بعض الشيء، إذ كان يقنع من التدريس بأن يقرأ عليهم بمصاحبة أحدهم مسرحية من مسرحيات شكسبير - وكان يؤثر مسرحية العاصفة - ظنًا منه أن هذه القراءات كفيلة بتدريب أذن طالب "الأجرجاسيون" وبتحسين طريقة النطق ومخارج الألفاظ ولعل هذا التقدير الكبير لقيمة الأذن من أنه من جانب بيكيت يرجع إلى افتتانه بالموسيقى، فكان شديد الإعجاب بموسيقى باخ وموزارت ومانهر، لم يلبث الأصدقاء أن عرفوا عن سام كما كانوا يسمونه، أنه ابن مقاول كبير يشرف على المباني والمرافق العامة بمدينة دبلن، كان رجلًا شديد المرح، يحب الحياة في الهواء الطلق، ويقضي راحته الأسبوعية في لعب الجولف".
صمويل بيكيت
ويكمل: "اتسمت طفولة صمويل بيكيت بالسعادة والمرح، قضاها في اللهو بين أرجاء الحدائق الشاسعة، تحبه أمه بحنان عميق، وكان له أخ اسمه "فرانك" مات شابًا إثر اشتراكه في حروب الهند وبورما، كان فتى وسيمًا، نحيل الوجه، رشيق القامة، يمارس الألعاب الرياضية حتى سن العشرين، وكان يعشق بصفة خاصة لعبة "الرجبي"، إذ كان من أبطالها في كلية "ترينتي"، ولكنه بعد أن قدم إلى باريس انصرف عن الألعاب الرياضية مؤثرًا عليها المناقشات مع الأصدقاء، يقطعها أحيانًا بصمت طويل يطيب له الإغراق فيه، أو النزهات الليلية يزرع خلالها شوارع باريس، وأحيانًا كثيرة كان يمتد به الليل في المقاهي أو في حانات "موبنارناس"، حي الفنانين، ولم تكن تلك السهرات لتنقضي دائمًا في هدوء وسكينة، بل غالبًا ما كانت تنتهي بالشجار، أو الصدام، وإن كان الشاب سام قد هجر حياة التطاحن والمنافسة الرياضية، إلا أنه احتفظ بعضلات مرنة، وبيقظة الهجوم وقبضة اليد الحاضرة والضربة الخاطفة، هكذا كان يتجلى في حالات الشجار التي يختتم بها، ولكن حدث ذات مرة بعد إحدى تلك السهرات في حي مونباراناس أن نشب شجار ترك أثرًا عميقًا في حياته بل وفي إنتاجه الأدبي".
في انتظار جودو
يتابع: "كان صمويل بيكيت خارجًا من أحد المقاهي، فاصطدم عن غير قصد بأحد المارة صدمة خفيفة، ولكن تبادل الاثنان الشتائم وسرعان ما تلقى صمويل ضربة في وسط صدره، لم يكترث بها، كثيرًا ما تلقى مثلها في حياته الرياضية، لكنه لم يلبث أن تبين أن قميصه ملطخ بالدماء، لقد طعنه الرجل المجهول بسكين، فنقلوه لمستشفى "تينون" القريب منه، واتضح أن نصل السكين قد مزق ألياف القفص الصدري، ولكن سرعان ما التأم الجرح بفضل سلامة بنيته".
يواصل: "إلا أن بيكيت لم ينس اللحظة التي هاجمه فيها ذلك الشبح المجهول، كان أحد المتشردين المعروفين في باريس باسم "الكلوشار" المتسكعين على أرصفة السين وفي الحي اللاتيني أو حي مونبارناس".
يستطرد: "انهالت الأسئلة على بيكيت لمعرفة سبب الطعنة، ولكنه لم يحر جوابًا، إذ لم يكن ثمة سبب واضح يبررها، كانت في نظره حركة غير معقولة وغير منطقية".
ويكمل: "ظلت هذه الواقعة ماثلة أمام مخيلته عدة سنوات إلى أن أقدم على كتابة روايات أو مسرحيات، فلا غرابة أن جعلها آهلة بهؤلاء المتشردين المتسكعين "الكلوشار". فأبطال مسرحيته "في انتظار جودو" ينتمون لهذه الفئة ويعيشون في عالم يزخر بالسلوك غير المعقول ويتخذون قرارات لا أصل لها ولا معنى، كما أن أحد المتشردين، واسمه استراجون يتعرض فى كل فصل من فصلي المسرحية للضرب من معتدين مجهولين".
مدرسة المعلمين العليا
ويتابع: "بعد أن قضى بيكيت عامين في مدرسة المعلمين العليا بباريس عاد إلى دبلن، حيث عين مدرسًا للأدب الفرنسي في "ترینتی كوليدج"، كان هذا المعهد يتسم بالهيبة والجلال، ففي كل مساء كان ينزل أكثر من مائة طالب إلى قاعة الطعام، مرتدين ملابس السهرة وعليها الروب الجامعي، فما لبث أن أدخل بيكيت على هذا الجو المتزمت لونًا من المرح، فأخذ يقدم بعض المسرحيات باللغة الفرنسية. كان يختار دائمًا ملهاة مرحة، وإن وقع الاختيار على مأساة أدخل عليها روح المرح الساخر، فمثلًا قدم رواية «السيد» تألیف "کورنی"، وكان يلعب بيكيت نفسه دور "دون ریج" فكان يمسك بدلًا من السيف بجرس صغير يدقه مؤذنًا بانتهاء كل «مونولوج» طويل، وفى أحد المشاهد يدخل هذا مخمورًا يسير "دون ریج" على أطرافه الأربعة، هذا إلى أنه اختار لدور البطلة "شيمين" فتاة بدينة ضخمة تثير الضحك حين تتحدث عن رقة عواطفها".
كورني
ويكمل: "فلا غرابة أن امتعض الأساتذة زملاؤه من هذا التشويه لإحدى روائع "کورنی" وانسحبوا من القاعة، وفي العرض الثالث والأخير احتج الطلبة أنفسهم على هذا الأسلوب الذي يجافي كل فن، كان أبوه يراقب نشاط ابنه الوحيد دون أن يتدخل إيجابيًا لتوجيهه كما يريد، بل ترك له حرية الاستمرار في الدراسة التي تطيب له، ولكنه كان يأمل أن يرى اليوم الذي يهجر فيه ابنه الآداب والتدريس ليشرف على إدارة أعمال المقاول "بيكيت"، غير أن حلمه هذا تبدد، وخاب ظنه حين صارحه ابنه برغبته في أن يصبح أديبًا، لم يسخط عليه ذلك الوالد المثالي بل تعهد لابنه أن يكفل له دخلًا ثابتًا يضمن له عيشًا كريمًا في جميع الظروف".
ويختتم: "وحينئذ عزم على السفر إلى فرنسا سنة ۱۹۳۸ ليستقر فيها، فقدم إلى باريس حاملًا معه الناي الذي كان يهوى العزف عليه في عزلته، وطاب منه المقام في باريس حيث تعرف إلى جيمس جويس، أحد مواطنيه مؤلف قصة "أوليس"، تلك القصة الرائعة التي حاول فيها المؤلف أن يصور الحياة البشرية بآلامها ومباهجها وأحداثها المألوفة".