«السرب».. و«الضربة الجوية»
هناك أفكار وبطولات كثيرة تصلح لكى يتحول إحداها لعمل فنى أو يتم تجميعها فى عمل واحد
قرأت مقالات ومنشورات لبعض الزملاء أنه فى ذكرى نصر أكتوبر المجيد، بعد ثورة يناير، توارى الحديث عن أدوار بعض القادة الذين كانوا ضلعًا مهمًا فى العبور العظيم. بالطبع يقفز للمشهد مباشرة اسم اللواء حسنى مبارك، قائد القوات الجوية فى ١٩٧٣، «حصل على رتبة فريق فى فبراير ١٩٧٤» ورئيس الجمهورية بعد ذلك. وأقول لهؤلاء إنه طوال ٣٠ عامًا، هى مدة حكم الرئيس الأسبق، جرى اختزال حرب أكتوبر بما فيها من تخطيط وتجهيز وبطولات ومعارك.. ودراما وأفراح، فى الضربة الجوية فقط. رغم أن ما تحقق على الأرض كان أعظم وأخطر بكثير. حتى المناهج الدراسية والأغانى والاحتفال بذكرى النصر، خلال حكم مبارك، كانت تؤكد هذا المعنى وتصدره للرأى العام بوسائل مختلفة. ثم إننى شخصيًا رأيت وحاورت عددًا من قادة نصر أكتوبر، بعضهم كان يسبق مبارك إلى منتصف صور مركز القيادة الشهيرة، وهم يحيطون بالقائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس محمد أنور السادات، خلال قيادة المعارك فى أكتوبر. رأيتهم يعيشون حياة هادئة ومتواضعة جدًا، رغم أدوارهم العظيمة للاستعداد الحرب أو قيادة المعارك. يتحدثون عما قدموه بكل تلقائية وبساطة وإنكار للذات. رحمة الله عليهم جميعًا.
ورغمًا عن هذه المقدمة التى طالت بعض الشىء، فإننى ما زلت أطمع فى أن نقدم عملًا دراميًا غنيًا- فيلمًا طويلًا أو مسلسلًا- عن الضربة الجوية خلال حرب أكتوبر، ودور القادة، بمن فيهم حسنى مبارك وكل الطيارين العظماء لتنفيذ هذه البطولة التى ما زالت معجزة عسكرية يتم تدريسها فى الأكاديميات الكبرى فى الداخل والخارج. هى أمنية، وددت أن تتحمس لها الجهات المسئولة، وأعتقد أنه كانت هناك خطط للتنفيذ، لكن جرى تجميدها بعد ذلك.
لم أشاهد فيلم «السرب» إلا يوم الأحد الماضى، واقتنعت، بعد أن انتهيت منه، بأن السينما المصرية وشركات الإنتاج الوطنية ومخرجينا قد تطوروا جميعًا لمستوى يؤهلهم لتنفيذ عمل فنى ضخم، ينافس الأفلام العالمية التى قدمت أعمالًا مهمة عن بطولات ومعارك شهيرة فى الحرب العالمية الثانية وغيرها. كانت لدينا روايات وقصص وحكايات جيدة عن حرب أكتوبر، تم تحويل عدد منها لأفلام عن معارك الاستنزاف ثم العبور، تكررها الفضائيات والقنوات المحلية كل عام. لها مكانة غالية فى قلوبنا لأننا نسترجع معها ذكريات الشهداء والأبطال.. وكذلك حكايات العائلات معهم أو عنهم. لكننى لا أريد فيلمًا عن الضربة الجوية لا يكون بالمستوى الفنى الذى تحقق فى أفلام مثل «بدور» أو «الرصاصة لا تزال فى جيبى» و«حتى آخر العمر».
لقد استوعبت الرسائل السياسية المهمة فى فيلم «السرب». كانت واضحة وخالية من الخطابة واللغة الحماسية، إلى حد كبير.
لكننى توقفت، وأنا أشاهد الفيلم على منصة «واتش إت»، عند جملة القائد وهو يوجه خطابه إلى الطيارين: «هذه أول ضربة جوية تنفذها طائرات مصرية خارج حدودنا منذ ٤٠ سنة. هناك طيارون مقاتلون تخرجوا واستقروا فى تدريباتهم.. ثم تركوا أعمالهم، ولم يشهدوا حدثًا مثل الذى ستنفذونه الآن بطائراتكم». كان الطيارون يستمعون وهم إلى جوار سرب الطائرات المقاتلة لدك معسكرات وحصون تنظيم داعش فى ليبيا فى مايو ٢٠١٧، بعد أن تغول التنظيم الإرهابى على حدودنا ونفذ عدة عمليات دموية فى عمق الأراضى المصرية، لكن أخطرها كان ذبح ٢١ قبطيًا مصريًا شرق ليبيا. كررت هذا المشهد أكثر من مرة. كانت الضربات ضمن سلسلة من العمليات الناجحة للقضاء على التنظيم فى سيناء وعلى حدودنا الغربية وفى عمق الأراضى الليبية.
هى رسالة مهمة للمستقبل، وأعتقد أن هذا اليوم هو تاريخ فاصل فى عقيدة الجيش المصرى. تزامنت مع ذلك خطط للحصول على طائرات مقاتلة حديثة تستطيع الوصول إلى أهدافها فى أى مكان والعودة بسلام. هناك تحديات كثيرة من حولنا ستحتم علينا، خلال الفترة المقبلة، اللجوء مرة أخرى لكى نكرر ما فعلناه مع دواعش ليبيا، مع قوى أخرى خارج الحدود. مصر لن تفعل ذلك إلا لحماية حقوقها وتأمين شعبها ومقدراته وسبل حياته. ومع كل هذا، أتمنى أن أشاهد عملًا فنيًا بقيمة «السرب» أو أفضل، عن الضربة الجوية، حتى لو جاءت فى سياق مختلف عن الذى أتمناه. هناك أفكار وبطولات كثيرة تصلح لكى يتحول إحداها لعمل فنى، أو يتم تجميعها فى عمل واحد. لقد حضرت مؤخرًا ندوات لطيارين أبطال، يتحدثون عن الضربة الجوية وكأنها حدثت بالأمس وليس قبل ٥١ عامًا. أمد الله فى أعمارهم ورحم من قضى نحبه من هؤلاء الأبطال.