رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تكريم أبطال الحدود الشرقية

القناة الوثائقية، التابعة للشركة المتحدة، دأبت على إنتاج سلاسل متميزة عن زعماء مصر وقادتها ورموزها على مدار التاريخ. آخر ما تابعته حلقات مفيدة ومكثفة، حملت اسم «الأعيان» عن قادة الحراك السياسى والاجتماعى والاقتصادى خلال القرنين الأخيرين. ليت القناة الوثائقية وإدارتها الذكية المثقفة تنتج سلسلة أخرى بميزانية سخية عن أبطال حدودنا الشرقية، خاصة فى سيناء.

هذه الفكرة ألحّت على عقلى وقلمى بينما كنت أتابع، يوم الخميس قبل الماضى، زيارة رئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق أحمد خليفة، وعدد من كبار قادة الجيش، حدودنا مع قطاع غزة.. وتفقدهم الحدود المشتركة وعمليات التأمين عند معبر رفح، الذى تحتله إسرائيل من الناحية الأخرى، كما ترفض الخروج من محور صلاح الدين فى منطقة رفح الفلسطينية.

الحلقات الوثائقية التى أقترحها ينبغى أن تركز على الأبطال الذين دافعوا عن حدودنا الشرقية، وقادوا جيوشنا، أو نشروا الأفكار والمبادئ العظيمة.. أو قاوموا الغزاة والمحتلين أو الداعين للفتنة والإرهاب.

وإسرائيل ليست أول دولة احتلال تعمل على نشر القلاقل والتوتر على حدودنا الشرقية. هى فى ذيل القائمة. كلهم انسحبوا أو هُزموا شر هزيمة.. أو انصهروا داخل بلدنا.

ولم تكن هذه الحدود الشرقية مصدرًا للمحتلين أو المتسللين فقط، بل كانت جسرًا عظيمًا لكى تصل إلينا من خلاله كل الديانات السماوية النبيلة. منها دخل عدد من أنبياء الله إلى مصر، فى فترات ضعفهم أو الهروب من الملاحقة. وفى أزمنة القوة والرخاء، كانت السيادة المصرية تتمدد عبر الحدود الشرقية عبر سيناء إلى الشام وحدود الأناضول وإلى الجزيرة العربية واليمن. كل أبطال وقادة هذه الملاحم والفتوحات والحروب يستحقون تسليط الضوء عليهم.

لقد دعا الدكتور جمال حمدان فى موسوعته الرائعة «شخصية مصر» منذ الثمانينيات من القرن الماضى إلى ضرورة تعمير سيناء لتأمينها، ونبه إلى أن الفراغ العمرانى بسيناء جعلها مطمعًا للآخرين، وخطرًا يهدد الأمن القومى، وأن «الحل الوحيد لذلك هو التعمير واستغلال ثرواتها، فى إطار تخطيط استراتيجى يربط سيناء بالوادى، ولا يفصلها عنه أبدًا».

كما أنقل عنه «سيناء ليست مجرد صندوق من الرمال كما يتوهم البعض، وإنما هى صندوق من الذهب».

وأضيف على ذلك أنه ينبغى، ونحن نعمرها وننفذ خطط التنمية الطموحة هناك، أن نعلم أن غالبية الأجيال السابقة لنا عرفت قيمة المكان وأهميته وقداسته ولم تبخل أبدًا فى التضحية من أجلها ومن أجل مصر وأمنها ورخائها. 

إن عقلى وهو يقلب فصول التاريخ القديم والحديث.. يذهب لتوثيق أول فصول المجد الفرعونى هناك. المعلومات متاحة عن لجوء ملوك الدولة القديمة لاستكشاف المكان والاستفادة من المعادن. لكننى أتوقف عند أول من فهم واستوعب القيمة الاستراتيجية للحدود الشرقية، وأقام القلاع والحصون هناك. 

فى الدولة الوسطى، بدأ اهتمام ملوكها بسيناء.. واسترداد هيبة مصر فى هذه المنطقة، وعملوا على إقامة الحصون والقلاع ونقاط للمراقبة. هكذا فعل الملك أمنمحات الأول الذى أبدى اهتمامًا كبيرًا بحدود مصر الشرقية. وبعد انتهاء محنة الهكسوس ودحرهم، حرص ملوك الأسرة الثامنة عشرة على تأسيس خط عسكرى دائم وباقٍ فى قلب سيناء ليُسهّل الانتشار السريع إلى أماكن الخطر.. وليواجه الجيش المصرى من خلاله أى معتدٍ من الجهة الشرقية.. وعُرف ذلك الطريق تاريخيًا بـ«طريق حورس»، وهو ممتد من السويس وحتى حدود رفح، وكان محميًا بأحد عشر حصنًا تم بناؤها خلال الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة. ينبغى التوقف عند معركتى مجدو وقادش.. فيهما الكثير من البطولات العظيمة، هى محطات مضيئة من الممكن التركيز عليها وعلى أبطالها من القادة الميدانيين. الغالبية منهم معروفة عند علماء الآثار والتاريخ، كما نعلم جميع القادة الذين انتصروا عند حدودنا الشرقية فى العصور التالية.

من هناك خرجت القوات المصرية مع صلاح الدين الأيوبى لمحاربة الصليبيين، وبعد سنوات قليلة خرج جيش مصرى آخر بصحبة سيف الدين قطز لهزيمة المغول فى عين جالوت، والمكان حاليًا ضمن فلسطين المحتلة.

ومن يُقلّب فى تاريخ هذه المرحلة سيجد أن سلاطين الدولتين الأيوبية والمملوكية لم يتوقفوا عن تجهيز الجيوش سنة واحدة، لحماية حدود الدولة من الناحيتين الشرقية والشمالية. كانت المطامع عظيمة، لكن كانت السيادة المصرية حينئذٍ مستقرة على الشام والجزيرة العربية. كتب التاريخ لم تبخل علينا بأسماء قادة الجيوش والمعارك فى هذه المعارك.

أما عن تكريم القادة الميدانيين لحروبنا الحديثة فى مواجهة إسرائيل فأعتقد أن الأمر أسهل فى تنفيذه. هناك مواد متاحة لتسهيل هذه المهمة، وقد تحقق فيها بعض الجهد بعد سنوات محدودة من نصر أكتوبر.

ولا ينفصل التكريم الذى أطلبه عن إنتاج أفلام عن أبطال الدبلوماسية المصرية، الذين بذلوا دورًا مهمًا لتحرير سيناء. أعتقد أن هناك فيلمًا متميزًا عن الجهود التى بُذلت لعودة طابا بالتحكيم الدولى.. عندى فكرة أخرى فى هذا الإطار، لكننى أؤجلها لوقت لاحق.

وأنتهى من حيث بدأت: ينبغى أن نُعلّم الأجيال الجديدة أن التحديات الثقيلة على حدودنا الشرقية ليست جديدة، وهى قدرنا، لكن مصر قوية وباقية، وهى التى تنتصر فى النهاية.