«سيناء الخضراء».. والسم فى العسل
من المرجح وأنتم تقرأون هذه السطور اليوم فإنكم بشكل أو بآخر قد تكونون قد شاهدتم أو تصفحتم تقريرًا أو أكثر عن المشروع العجيب الذى يبشر به باحث هولندى حول سيناء. يتم الترويج للمشروع بشكل مريب فى مضمونه وتوقيته، بوسائل إعلام غير مصرية. يزعم صاحب دراسة المشروع أن بإمكانه تحويل شبه جزيرة سيناء، البالغ مساحتها نحو ٦١ ألف كيلومتر مربع، إلى جنة عدن خضراء.. مثلما كانت عليه من قبل. ولقد روجت التقارير الإعلامية لتسريبات من هذه الدراسة ونشرتها مع تصريحات من صاحبها وتعليق خبراء أجانب آخرين. كبريات الفضائيات العالمية مثل «سى إن إن» و«بى بى سى» وقناتى العربية والشرق، اهتمت بالدراسة.. والقائمة طالت بعد ذلك.
نظرت لهذه الدراسة من اليوم الأول بشىء من الريبة. بحثت عن تفاصيل إضافية بشأنها بعد أن شاهدت فى البداية تقريرًا مكثفًا وغنيًا بالمعلومات عن المشروع على فضائية الشرق الإخبارية السعودية، ثم نسيت الأمر، لكن عاد الإلحاح الشديد لعرض الدراسة والترويج لها.. حتى مساء أمس الأول الإثنين، حيث أكتب هذا المقال. ووجدت أن الدراسة صارت متداولة ورائجة حتى بين نشطاء الوسائط الاجتماعية، الذين تبهرهم العناوين البراقة، وغالبًا ما يسرقون المواد الإعلامية والمعلومات من بعضهم البعض. وربطت ذلك بالدعاية السياسية التى تروجها بعض العواصم والجهات الأجنبية لسيناء، وأن اقتطاع جزء منها يكفى لحل مشاكل إسرائيل مع قطاع غزة وسكانه الذين هم مصدر إزعاج دائم.
وبداية، فإن الباحث الهولندى «تييس فان دير هوفن» ينطلق من مشروعه الطموح لتحويل مساحة شاسعة من صحراء شبه جزيرة سيناء القاحلة إلى أرض خضراء غامرة بالحياة البرية، من خلال استخدام الرواسب المستخرجة من تطهير بحيرة البردويل للمساعدة فى إعادة تشجير المنطقة المحيطة.. ووفقًا لدراسته، فرغم أنها مالحة، لكنها تحتوى على الكثير من العناصر الغذائية والمعادن، والتى يحتاجها لبدء استعادة الأرض حيويتها. وأكد المهندس الهولندى فى دراسته أنه سيبدأ تنفيذ المشروع بالأراضى الرطبة المحيطة ببحيرة البردويل، وسيوسعها لجذب الطيور والأسماك، ثم سيذهب إلى أعلى جبال المنطقة، ويضع طبقات منها لإنشاء تربة، حيث يمكن زراعة أنواع مختلفة من النباتات المقاومة للملوحة بها.. وهذا من شأنه أن يساعد فى تنشيط التربة، مما يقلل من مستويات الملح ويجعل الأرض قادرة على دعم مجموعة أكبر من النباتات. وتتلخص الفكرة الأساسية، التى يطرحها، فى إضافة الغطاء النباتى إلى المناظر الطبيعية، مما يعنى المزيد من التبخر، ويشكل المزيد من السحب التى تؤدى لهطول المزيد من الأمطار. وقد يؤدى هذا إلى تغيير اتجاه الرياح، حيث يمكن أن يؤدى إضفاء الخضرة على المنطقة إلى إعادة تدفقات الهواء المحملة بالرطوبة.
كما تذكر التقارير المنقولة عن الدراسة أنه عندما قام المهندس الهولندى بمسح للتضاريس على تطبيق «جوجل إيرث»، رأى الخطوط العريضة لشبكة من الأنهار الجافة، أو كما تعرف بالوديان، وهى تتقاطع داخل سيناء مثل الأوعية الدموية، ما يشير إلى أن هذه الأرض كانت خضراء ذات يوم.
وينتهى الحلم الهولندى عند ميلاد حياة برية وغطاء نباتى غنى فى سيناء.. وأن ذلك سيحدث خلال سنوات معدودة!.
وعندما قلّبت فى هذه العناصر، ورغم أننى غير متخصص، وجدتها عناصر غير واقعية بالمرة. هناك تحذيرات متكررة بأن التلاعب بالطقس هو مدمر على المدى البعيد وآثاره الجانبية أخطر من فوائده. كما أن تطهير البحيرات الشمالية عملية معقدة ومكلفة للغاية.. وقد قرأت الكثير من الملاحظات العلمية حول تطهير بحيرتى المنزلة والبردويل بالتحديد، وأن بعض الخطوات التى تتم حاليًا من شأنها أن تؤثر سلبيًا على الأسماك فى البحيرتين.
وحاولت الحصول على ردود مقنعة حول المشروع، واكتشفت أن هناك صمتًا رسميًا، وكذلك من الإعلام المحلى، لا تعليق بالسلب أو بالإيجاب. لكننى عثرت على ضالتى من خلال مقالين عميقين نشرهما الدكتور إسماعيل عبدالجليل، الرئيس الأسبق لمركز بحوث الصحراء، على صفحته الشخصية، وكذلك على موقع بوابة الزراعة.. كما قرأت رأيًا علميًا آخر للأستاذ الدكتور عطية على عمر، الخبير بالمعهد القومى لعلوم البحار والمصايد.. وفهمت مما قرأت أن المشروع ملىء بالعوار العلمى، وعمره عشر سنوات.. وظهر أول مرة مع البدء فى تطوير وتطهير البحيرات الشمالية، لكن إعادة طرحه بهذه الكثافة فى هذا التوقيت لها أهداف سياسية واضحة.
أما فيما يتعلق باقتراح تعميق بحيرة البردويل «فإنه سوف يؤدى إلى تصحرها» وتدهورها تمامًا، نتيجة اختلال توازن البيئة البحرية بها.. حيث سيؤدى إلى انخفاض ملوحة مياهها إلى المستويات التى لا يعيش بها أفخر أسماكها التى نصدرها من الدنيس والقاروس، وهو ما يمثل خسارة اقتصادية عظيمة للبردويل يصعب استعواضها بعد تصحرها بالعمق الكبير. واختلال التوازن البيئى للبردويل سيكون لصالح القشريات والجمبرى الأقل قيمة اقتصادية من الدنيس والقاروس.
وتعميق لاجون البردويل سوف يحولها إلى بركة كغيرها بتكلفة باهظة سوف تهدر القيمة البيئية لكنوز الرواسب البحرية فى قاعها الضحل.
ليت هذه الدراسة تصل لاهتمام مسئولينا وإعلامنا.. هناك إصرار على طرحها بنفس العناوين البراقة والخادعة، وأنه فى الإمكان تحويل سيناء لجنة خضراء تجرى فيها الأنهار والجداول المائية.