التنمية المستدامة للشواطئ
مناقشة طويلة مع أحد خبراء السياحة المرموقين عن «تغير الموضة فى اختيار السواحل» كانت وراء كتابتى هذه الفكرة. أركز فيها على الاستفادة من شواطئنا بطول البحرين الأبيض والأحمر، فى كل فصول السنة، وألا يكون لجوؤنا إليها فى ثلاثة أشهر أو أربعة فقط، ثم نهجرها بقية العام.
الخبير كان يشرح لى أن لدينا فى مصر موضة تتمثل فى اللجوء إلى شواطئ بعينها ثم نتركها لشواطئ أخرى، مثلما نهجر ملابسنا القديمة التى فى دولاب الملابس بالبيت.. ونشترى أخرى جديدة بمبالغ باهظة.
ويقول إن منتجعات شرم الشيخ والغردقة والعين السخنة، التى كانت وما زالت قِبلة للسياحة الشاطئية، وتستقطب سياحًا من جميع دول العالم، بدأت تفقد بريقها بالتدريج، حيث تجذب حاليًا سياحة رخيصة محليًا ودوليًا، فيما يتم تسليط الأضواء أكثر على منتجعات بديلة فى البحر الأحمر مثل مرسى علم. أما الساحل الشمالى فإن الموضة فيه متقلبة جدًا وغريبة. مَن يتذكر الآن شواطئ العجمى ومراقيا وسيدى كرير وبرج العرب وأبوتلات، وغيرها.. كانت قبل ثلاثة عقود فقط قِبلة للنخبة من المصريين الأثرياء، انتشرت البيوت الحديثة بها، بعضها كان أقرب للقصور الفخمة.. الآن معظمها مهجور أو بِيعت بثمن بخس، فيما هجرها أصحابها لموضات جديدة وغالية جدًا فى «الساحل الشمالى الشرير».
ويبقى التساؤل: هل التقلب فى الشواطئ بهذه الصورة بدعة مصرية خاصة بنا، أم هى ظاهرة عامة؟ ولماذا لا نحافظ على نقاء شواطئنا وبيوتنا ونظافتها وجودتها.. ثم نتمدد بالأساليب المعقولة والهادئة؟. معظم الشواطئ التى صارت موضة قديمة باتت أقرب للعشوائيات بكل سلبياتها وأزماتها. ومن يشكك فى كلامى وحجيته عليه أن يزور الآن منطقة العجمى، التى كانت تمتلك أفضل شواطئ على البحر الأبيض المتوسط.. مياه زرقاء نقية وأمواج هادئة.. وتنوع فى الخدمات ووسائل الترفيه!.
بالطبع لا أستبعد دور الحكومة، متمثلة فى المحليات وإهمالها.. وأنها المسئول عن هذا الوضع.
فى صور قديمة جدًا لأبى، رحمة الله عليه، وأصدقائه، ما يثبت أنهم كانوا يتجهون شرقًا لقضاء إجازات الصيف. يسافرون إلى شواطئ بورسعيد والعريش وحتى حدودنا الشرقية فى مدينة رفح.. وأحيانًا كانوا يقصدون غزة للفسحة والتسوق من هناك. كانت هذه السفريات، فى ذلك الوقت، تقف وراءها رغبة الدولة لربط شبابها بالمناطق التى عاشت حروبًا وأزمات واستردتها كاملة.. وها هى شواطئها وخيراتها تعود لأولادها. لكن بالفعل كانت شواطئ متميزة لا تقل بأى حال من الأحوال عن شواطئ الساحل الشمالى الغربى. بل أكثر من ذلك، قريبة من المدن القديمة والتجمعات الحضارية. زرت شواطئ بورسعيد والعريش ورأس البر وجمصة، كلها شواطئ هادئة وفى متناول الغالبية العظمى من المصريين.. وأتمنى أن يعود الاهتمام بها كما كان من قبل.
وحين جهزت حلقات صحفية عن أحمد حسانين باشا، المستكشف المصرى العظيم ورئيس ديوان الملك فاروق، قرأت طويلًا عن إجازات النخبة فى رأس البر. كانت ملاذًا آمنًا لهم فى سنوات الحرب العالمية الثانية.. حينها لم تسلم الإسكندرية من هجمات الطيران الإنجليزى والألمانى على السواء، فاتجهوا لشواطئ رأس البر. حكايات مشاهير السياسيين والفنانين والصحفيين فى رأس البر غنية بالقصص والحكايات الممتعة والجميلة.
قرأت مقالًا قديمًا للكاتب الصحفى الراحل صلاح منتصر، وهو من أبناء دمياط، ركز فيه على طبيعة الحياة فى مصيف رأس البر فى أربعينيات القرن الماضى. وأنه كانت هناك ساعات محددة لنزول النساء، ويُمنع دخول الرجال حينها، وأن رجال الهجانة كانوا يعاقبون من يخالف اللوائح. وكان يصف جمال المدينة وعشش المشاهير بها، وبأنها تنافس شواطئ أوروبا. اهتمامنا بالشواطئ والمنتجعات الحديثة، سواء كانت طيبة أم شريرة، لا ينبغى أن يتسبب فى إهمال الشواطئ القديمة. كما يجب أن نفكر فى أن نُعمّر السواحل الحديثة طوال العام.. ونجعل سكان المدن والقرى فيها يستقرون هناك، بأن نوفر لهم بيئات عمل مناسبة.. وصناعة وزراعة. أى كل مقومات التنمية والاستقرار.
هناك دراسات متخصصة وتوصيات قُدمت للحكومة بهذا المعنى، وأعتقد أن نماذج النجاحات الجزئية السابقة فى تطوير الغردقة والجونة وشرم الشيخ ينبغى أن تتكرر فى الساحل الشمالى.
والحادث الآن فى العلمين الجديدة هو خطوة فى الاتجاه الصحيح. أقامت الحكومة تجمعات سكنية حديثة، وبدأت فى إقامة مهرجانات فنية وثقافية ضخمة، وروجت لها بشكل جيد. وهناك تفاعل معقول من رواد الساحل للمشاركة أو حضور هذه الفعاليات. ينبغى أن تكون الخطة التالية متعلقة بدعم استقرار السكان هناك طوال العام. لنُثبّت هذا التوجه.. وأن يكون عنوانًا رئيسيًا لمسيرة التنمية لسواحلنا فى كل مكان.