رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الخليفة» قتيل السرير

واجه الخليفة الأموى مروان بن الحكم مراكز معارضة عنيفة داخل مكة من ناحية، وداخل الكوفة من ناحية أخرى، قاد عبدالله بن الزبير الحزب المعارض بمكة، فى حين قاد سليمان بن صرد حزب المعارضة بالكوفة، عبدالله بن الزبير كان، كما تعلم، من المنحازين ضد على بن أبى طالب، وانضم إلى جيش «الجمل»، الذى قادته السيدة عائشة، وعهدت إليه أم المؤمنين بإمامة الصلاة خلال المعركة، وبالتالى فقد قاتل إلى جوار مروان بن الحكم ضد على، وهو الذى قال لخالته عائشة حين نبحتها كلاب الحوأب، وهى فى طريقها لقتال على، وتذكرت قول النبى حول زوجه التى ستنبحها هذه الكلاب: إن الذى أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب، بعد أن همت بالانسحاب من المعركة، كان عبدالله بن الزبير طموحًا للخلافة، تمامًا مثل مروان بن الحكم، وقد لعب الأخير باسمه حين طرح أن يسير إليه بنو أمية ليبايعوه، وذلك بعد وفاة معاوية الثانى، فاستفز أفراد العائلة، وقالوا له بل نبايعك أنت، وعهدوا إليه بالخلافة، وخلال فترة حكم «مروان» تمكن عبدالله بن الزبير من السيطرة على منطقة الحجاز بشكل كامل، ولم يستطع الأمويون استردادها إلا فى عهد عبدالملك بن مروان، على يد الحجاج بن يوسف الثقفى، فى حين استطاع مروان تحرير مدن الشام، مثل حمص وقنسرين وفلسطين من سيطرة عبدالله بن الزبير، حيث كان ولاتها يسوّقون له كخليفة للمسلمين. 

وإذا نحينا جانبًا مركز المعارضة، الذى قاده عبدالله بن الزبير فى مكة ضد حكم مروان بن الحكم، وحاولنا أن نستطلع المركز الثانى لمناوأته، والمتمثل فى الكوفة، فسنجد حركة معارضة أشد وطأة، تبلورت من خلال التيار السياسى الجديد، الذى بدأ فى التشكل عقب استشهاد الحسين بن على، ونقصد به تيار التوابين. يحكى «ابن الأثير» فى كتابه «الكامل فى التاريخ» أنه لما قتل الحسين تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأوا أنهم قد أخطأوا خطأً كبيرًا بدعائهم الحسين وتركهم نصرته وإجابته حتى قتل إلى جانبهم، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عليهم إلا قتل من قتله أو أن يقتلوا دون ذلك، فاجتمعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رؤساء الشيعة هم: سليمان بن صرد الخزاعى، والمسيب بن نجبة الفزارى، وعبدالله بن سعد بن نفيل الأزدى، وعبدالله بن والٍ التيمى، ورفاعة بن شداد البجلى، وكانوا من خيار أصحاب على، فاجتمعوا فى منزل سليمان بن صرد الخزاعى، فبدأهم المسيب بن نجبة، فقال بعد حمد الله: أما بعد فإنا ابتلينا بطول العمر والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربنا ألا يجعلنا ممن يقول له غدًا: «أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر»، فإن أمير المؤمنين عليًا قال: العمر الذى أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا فوجدنا الله كاذبين فى كل موطن من مواطن ابن بنت نبيه، صلى الله عليه وسلم، وقد بلغنا قبل ذلك كتبه ورسله وأعذر إلينا، فسألنا نصره عودًا وبدءًا وعلانيةً، فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا عند ربنا وعند لقاء نبينا وقد قتل فينا ولد حبيبه وذريته ونسله؟. لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تُقتلوا فى طلب ذلك، فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك، ولا أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن. أيها القوم ولوا عليكم رجلًا منكم، فإنه لابد لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفّون بها. 

وتأسيسًا على ذلك بدأت ملامح تيار «التوابين» الشيعى فى التبلور، منذ العام ٦١ هجرية، وأخذ أفراده فى إعداد عدة الحرب لتحقيق هدفهم فى الثأر للحسين، وظلوا على ذلك حتى مات يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، وحينها فكر بعض أتباع سليمان بن صرد فى الانقضاض على بنى أمية، وذلك فى نفس التوقيت الذى اعتلى فيها مروان بن الحكم سدة الخلافة، وفى ظروف كان الحكم الأموى يعانى حالة واضحة من الارتباك، بسبب قصر عمر الخلفاء الذين جاءوا بعد يزيد بن معاوية. فمعاوية الثانى لم يمكث فى الحكم أكثر من ثلاثة أشهر، أما مروان بن الحكم فقد مات سنة ٦٥ هجرية بعد أن قضى فى الحكم عدة شهور. وكان عمره ثلاثة وستين عامًا وقيل واحدًا وستين عامًا كما يذكر ابن كثير. 

وحكى «ابن الأثير» صاحب «الكامل فى التاريخ» رواية عجيبة تشرح كيفية وفاة «مروان»، يذكر فيها أن معاوية بن يزيد لما حضرته الوفاة لم يستخلف أحدًا، وكان «حسان بن بحدل»، خال يزيد بن معاوية، يريد أن يجعل الأمر بعد وفاة معاوية الثانى فى أخيه خالد بن يزيد، وكان صغيرًا، فبايع «حسان» مروان بن الحكم وهو يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد، فلما بايعه هو وأهل الشام قيل لمروان: تزوج أم خالد، وهى بنت أبى هاشم بن عتبة، حتى يصغر شأنه فلا يطلب الخلافة، فتزوجها، فدخل «خالد» يومًا على «مروان» وعنده جماعة وهو يمشى بين صفين، فقال مروان: والله إنك لأحمق!. تعال يا ابن الرطبة الاست!. يقصر به، أى يهينه ويسخر منه، ليسقطه من أعين أهل الشام. فرجع خالد إلى أمه فأخبرها، فقالت له: لا يعلمن ذلك منك إلا أنا، أنا أكفيكه. فدخل عليها مروان فقال لها: هل قال لك خالد فىّ شيئًا؟ قالت: لا، إنه أشد لك تعظيمًا من أن يقول فيك شيئًا. فصدقها ومكث أيامًا، ثم إن مروان نام عندها يومًا، فغطته بوسادة حتى قتلته. وأراد عبدالملك بن مروان قتل أم خالد، فقيل له: يظهر عند الخلق أن امرأة قتلت أباك، فتركها.

مات إذن مروان بن الحكم. وبويع لولده عبدالملك بن مروان فى اليوم الذى مات فيه، وكان يقال له ولولده: «بنو الزرقاء»، يقول ذلك من يريد ذمهم وعيبهم، والزرقاء هى الزرقاء بنت موهب جدة مروان بن الحكم لأبيه، وكانت من ذوات الرايات التى يستدل بها على بيوت البغاء، فلهذا كانوا يذمون بها، ولعل هذا كان منها قبل أن يتزوجها أبوالعاص بن أمية والد الحكم.