الصراع الكبير.. قراءة فى مخططات السيطرة على الدولة السورية
غير سقوط نظام الرئيس بشار الأسد فى سوريا خريطة موازين القوى فى الشرق الأوسط، ومع حقيقة أن أى فراغ لا بد أن يمتلئ، فقد بدأ الرئيس التركى رجب طيب أردوغان ملء الفراغ فى خطوات سريعة، عبر الإدارة الجديدة فى سوريا، الأمر الذى جعل تركيا عمليًا جارة جديدة لإسرائيل.
وتمثل التحركات التركية فى سوريا محاولة لصوغ نظام إقليمى جديد، وكأننا نشهد أمام أعيننا نموذجًا للإمبراطورية العثمانية، وفق التصور الأردوغانى، لخلق منطقة يقودها ويهيمن عليها محور الإخوان والإسلام السياسى السنى المتطرف، والذى حل عمليًا ونظريًا محل محور المقاومة الشيعى، التابع لإيران، والذى انهار نتيجة خروج سوريا من المعادلة، الأمر الذى يضع تركيا فى صراع مع إسرائيل حول إدارة المشهد السورى، وهو ما نتناوله فى السطور الآتية.
تحركات تركية لإحياء «العثمانية» والتحول إلى مركز إقليمى لتوريد الغاز للقارة الأوروبية عبر «الخط القطرى»
طوال العقود الماضية، حاولت إيران الدفع قُدُمًا بمشروعها فى المنطقة؛ عبر السيطرة على الهلال الخصيب، وهو المنطقة الممتدة من العراق مرورًا بسوريا وصولًا إلى لبنان وقطاع غزة، عن طريق أذرعها فى المنطقة، ممثلة فى «حزب الله» اللبنانى وحركة «حماس» الفلسطينية، ما ضيق الخناق على إسرائيل، لكن الحرب الطويلة فى غزة، وما تلاها من فتح جبهة لبنان، وصولًا إلى سقوط نظام الأسد، أغلق الطريق أمام المشروع الإيرانى، وأجبر طهران على التراجع إلى الوراء.
وبمجرد خروج إيران، قامت تركيا بالدخول مكانها، فى ظل المنافسة على السيطرة على المنطقة، وليس خفيًا أن تركيا عملت من خلف الكواليس على خلق وإنجاح الثورة فى سوريا، ومنذ العام ٢٠١١، كانت لدى أنقرة أهداف تتعلق بالإقليم الكردى، حيث حاولت منع ارتباطه بالإقليم الكردى فى تركيا، كما أراد أردوغان التخلص من ملايين اللاجئين السوريين الذين فروا إلى بلاده، وتحولوا إلى عبء اقتصادى وسياسى عليها، بالإضافة إلى تحرك تركيا فى إطار الهدف الكبير، وهو العودة لأن تكون نوعًا من الإمبراطورية العثمانية.
وعكست تصريحات المسئولين الأتراك خطط تركيا لسوريا، إذ تحدّث الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، فى تصريحات، حاول تغييرها لاحقًا، عن سوريا، باعتبارها محافظة فى تركيا الكبرى، كما تحدّثت مجموعة من كبار المسئولين الأتراك عن المساعدة التى تنوى تركيا تقديمها إلى سوريا الجديدة، وتشمل موضوعات سورية داخلية، مع التشديد على المسألة الكردية، كما صرّح أردوغان بأن على الأكراد التخلى عن سلاحهم أو سيُدفنون معه.
وحسب موقع «بلومبرج»، فإن وزير المواصلات التركى ينوى البدء بمفاوضات مع سوريا من أجل ترسيم الحدود البحرية فى البحر المتوسط، وهذا الاتفاق سيسمح، حسب كلامه، للدولتين بـ«زيادة منطقة نفوذهما فى التنقيب عن الطاقة».
وأشار الوزير التركى إلى أن بلاده مهتمة بالتعاون مع سوريا فى مشاريع بنى تحتية، بينها مرافئ، وهى خطوة مماثلة لما سبق أن قامت به تركيا، عبر توقيعها سنة ٢٠١٩ مذكرة تفاهم مع حكومة طرابلس فى ليبيا، جرى فيها ترسيم حدود بحرية جديدة بين الدولتين، عبر تجاهُل اليونان واستخدام سفن للتنقيب عن الغاز ترافقها سفن حربية، فى مقابل تقدّيم مساعدة عسكرية تركية إلى طرابلس. وضمن أمور أخرى، أعلن الأتراك، أيضًا، عن نيتهم إعادة شق سكة قطار الحجاز، فى قطاع إسطنبول- دمشق، بالتوازى مع شق طريق سريع بين البلدين، وإقامة مطارات وموانئ تركية فى سوريا، هذا إلى جانب ضم أجزاء من سوريا تنزع المياه الاقتصادية من قبرص، وتمنع تمديد أنابيب الغاز منها.
وترتبط الخطط السابقة، وفقًا لمحللين، بشكل وثيق، بخطط أردوغان الخاصة بإحياء حلم تركيا الكبير، وتحويل تركيا إلى مركز لتسويق الغاز إلى أوروبا، عبر انطلاق خط غاز من قطر، يعبر الأراضى السورية إلى تركيا.
ويؤكد المحللون أن العداء لإسرائيل يمثل «الغراء» الذى يحاول أردوغان بواسطته لصق كل أجزاء خطته لضمان السيطرة على الشرق الأوسط.
عمليات عسكرية إسرائيلية لحصد المكاسب.. ودراسة «خطة مارشال عبرية» لفرض الهيمنة على المنطقة
بالنسبة لإسرائيل فإن ما يشغلها فى المشهد السورى هو مدى تأثيره على الملفات التى تهتم بها، وأهمها ملف غاز التموسط.
وتتصرف إسرائيل، وفقًا للمحللين، فى مسألة سوريا، كما تصرفت خلال الحرب المستمرة منذ العام قبل الماضى، فاهتمامها الأول يتركز على العمليات العسكرية، بعد أن حسنت تل أبيب أوضاعها الأمنية على حساب الأراضى السورية، بالإضافة إلى تدمير الجيش السورى نفسه.
ويرى المراقبون أن إسرئيل تتحرك على أرض الواقع بصورة تخالف التحرك التركى، فهى لا تتحرك بشكل مدنى أو اقتصادى، فى مقابل تركيا التى تحاول أن تتحرك فى سوريا بوجه مدنى، وعبر الحصول على شرعية دولية، وتشجيع من مختلف أصحاب المصالح الاقتصادية، فى محاولة لتحقيق الهيمنة والنفوذ، تمهيدًا لفرض الوجود العسكرى، وقد صدرت بالفعل تصريحات تركية بشأن إقامة حلف استراتيجى بين تركيا وسوريا الجديدة.
أما بالنسبة لإسرائيل، فيرى فريق من المحللين أن أمامها ٣ خيارات، جميعها تحمل مخاطر وتحديات، أولها هو معارضة الحكم الجديد فى سوريا، لأنه يتحمل أيديولوجيا إسلامية سنّية متطرفة، ويرتدى قناعًا مؤقتًا للحصول على الشرعية الدولية، مع التعبير علنًا عن المخاوف الإسرائيلية من أن ينشأ فى أراضى سوريا الجديدة محور إسلامى سنّى متطرف يحظى بحماية وتأييد عسكريين من الجيش التركى، والذى مع مرور الزمن يمكن أن يشكل تحديًا لإسرائيل بحرًا وبرًا وجوًا.
أما الخيار الثانى، وفقًا للمحللين، فهو الاعتراف بالحُكم الجديد فى سوريا، بهدف التأثير على الصورة المستقبلية للبلاد، التى تعد جزءًا من نظام إقليمى جديد، ومن أجل قطْع الطريق على قيام تنظيم متطرف سنى على حدود إسرائيل.
ويشير هؤلاء المحللون إلى أن الخيارين السابقين كلاهما سيئ بالنسبة لإسرائيل، لكن أى منهما يظل أفضل من الوجود الإيرانى فى سوريا.
أما الخيار الثالث، وفقًا لهذا الفريق من المحللين، الذى ربما تحاول إسرائيل تبنيه فى الفترة المقبلة، فهو العمل على إنشاء نظام جديد فى الشرق الأوسط يتلاءم مع مصالح إسرائيل البعيدة المدى، والأداة الأساسية فيه تكون أداة مدنية وليست عسكرية؛ عبر التسلل والقيادة والهيمنة عبر مسألة إعادة الإعمار فى سوريا، والوصول إلى ترتيبات إقليمية دولية تكون إسرائيل جزءًا مهمًا منها، وتتمكن من خلالها أن تؤمن مصالحها.
ويؤكد المحللون أن هناك مصلحة مشتركة لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن كل ما له علاقة بـ«اليوم التالى» فى الشرق الأوسط، وأهمها تأمين مصالح اقتصادية مهمة، تتعلق بالطرق البرّية العابرة للشرق الأوسط، مع توسيع «الاتفاقات الإبراهيمية»، لتشمل السعودية، بالإضافة إلى إعادة ترتيب الأوراق فى المنطقة بعد خروج إيران.
ويرى المحللون أن الولايات المتحدة ودول «الاتفاقات الإبراهيمية» هى الوحيدة القادرة على تقديم الدعم الاقتصادى لإعادة الإعمار فى سوريا، خاصة أن أنقرة لا تستطيع القيام بهذه المهمة فى ظل الوضع الاقتصادى التركى الصعب.
ويشير المراقبون إلى أن أهم المقترحات الإسرائيلية، فى هذا السياق، تتعلق بالحديث عن تفعيل «خطة مارشال» بسوريا، أى خطة إعادة إعمار شاملة، برعاية إسرائيلية، مع اشتراط التعامل مع نظام الحكم الجديد فى سوريا بطريقة مشروطة وعلى مراحل متدرجة لوقت طويل، وفى مرحلة معينة يطلب منه رسميًا الاعتراف بدولة إسرائيل.
وينوه هؤلاء بأن تطبيق «خطة مارشال»، بقيادة إسرائيل، ستؤدى عمليًا إلى قيام حلف إقليمى عبر استغلال المصالح المشتركة وإعادة الإعمار، مع استمرار محاصرة حركة «حماس» فى غزة وتركيا فى سوريا.
ويوضحون أن «خطة مارشال الإسرائيلية» ستساعد فى تأمين مصالح تل أبيب، بما فى ذلك السيطرة الأمنية الإسرائيلية الشاملة على قطاع غزة، وإحراج «حماس» و«حزب الله» وكل من يرفض إسرائيل فى سوريا، عبر تصويرهم بأنهم يقفون أمام إعادة الإعمار.