المتمردون فى قلعة حلب
أول فيديو شاهدته لسيطرة قوات فصائل المعارضة السورية على مدينة حلب، يوم الأربعاء الماضى، كان فى خلفيته قلعة حلب. وبعد ذلك تواترت المشاهد للمقاتلين وهم داخل القلعة العريقة.. وفى الشوارع الرئيسية، وكذلك فى ريف حلب كله. استرجعت، بشكل عابر، تاريخ المدينة العريق والقلعة.. وما قرأته عن تاريخها وقصص بنائها وتجديدها وصمودها.
تعمقت خلال الأسابيع الماضية فى قراءة مجلدات «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» للمؤرخ المصرى ابن إياس، وتوقفت عند ذكر تاريخ حلب وقلعتها فى مرات عديدة، غالبيتها ترتبط بالمواجهات مع الأعداء من المغول والصليبيين، خاصة خلال حكم الدولتين الأيوبية والمملوكية لمصر والشام.
أعود للأحداث الجارية.. لم يتأخر البيان الرسمى للنظام السورى، والذى يعترف بالهزيمة والانسحاب من هذه المنطقة. سماها «إعادة انتشار خارج حلب وريفها»، وهى لغة شبيهة بمصطلحات الجيش الإسرائيلى وبياناته فى فترات سابقة!.
الجيش السورى، بدعم الطيران الروسى وميليشيات حزب الله وقوات إيرانية، كان قد سيطر على حلب فى ٢٠١٦، بعد معارك قوية مع قوات المعارضة.. وها هو يخسرها مجددًا.. وبسهولة أدهشت المراقبين.
وعلى ما يبدو فإن النظام السورى فى محنة قاسية نظرًا لانحسار شعبيته فى الداخل والخارج. كما أن جيشه قد جرى إضعافه بأساليب عديدة. ركز بشار الأسد ونظامه على التحالفات الإقليمية أكثر، خاصة مع إيران وروسيا، ولم يعمل على تحديث الجيش الوطنى. هو أيضًا لم يقدم أى مبادرات للمصالحة السياسية مع شعبه. لا توجد معارضة مدنية تساند بشار ونظامه فى الوقت الراهن. وفى ظل التغيرات الحادثة فى المنطقة، بات الرجل ونظامه عبئًا على الجميع، بمن فيهم أصدقاؤه وداعموه.
لا يهمنى بشار وبقاءه أو سقوطه، هو نموذج للديكتاتور بشكله العتيق.. لم يتورع يومًا عن التنكيل بشعبه ورفض وجود أى أصوات مختلفة إلى جواره. كما أنه لم يصدر عنه أى فعل عسكرى، أو حتى تحرك سياسى، لتحرير أرضه المحتلة من إسرائيل. لم يَحِد الرجل فى ذلك عن منهج أبيه حافظ الأسد قيد أنملة.. فكان جزاؤه هذه المواجهة الشرسة مع القوى الإسلامية التى لها ظهير دولى وإقليمى قوى. وإذا كانت طهران وموسكو فى ظهر بشار، فإن تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل تهمها أن تقلب ورقة بشار، على أن تشارك فى صناعة وتشكيل النظام البديل.. حتى لو رفع شعارات إسلامية متشددة.
والخطورة فى المواجهة هذه المرة أن مسلحى المعارضة، وفى مقدمتهم هيئة تحرير جند الشام، «جبهة النصرة سابقًا»، قد تعلموا من الدروس والأخطاء السابقة، ولم يعودوا منغلقين على أنفسهم. بيانات زعيم جند الشام محمد الجولانى، خلال الأيام الماضية، حول مواقفهم من المعارضين لهم، خاصة من الأكراد والمسيحيين، تستحق التوقف والدراسة. التنظيم يقدم نفسه بشكل جيد للخارج والداخل، ويبدو أنه قد تعلم من إخفاقات الإسلاميين فى عواصم عديدة.. والانقلاب عليهم.
ما يهمنى أكثر فى الملف السورى هو وحدة هذا البلد العربى الشقيق، وعدم تفتيته.
أكتب ذلك وفى ذهنى حالة الفهم الاستراتيجى التى وصل إليها الشعبان فى مراحل سابقة. التقارب والتحالف بدأ فى العصر الفرعونى القديم.. وامتد على نطاق أوسع فى العصر الإسلامى.. وكان صلاح الدين الأيوبى هو أكثر القادة الذين عرفوا قيمة الوحدة بين مصر وسوريا.. وأن التحالف بينهما هو لصالح الأمة كلها. دولة المماليك، على اختلاف حكامها وفترات القوة والضعف فيها، كانت تحكم من القاهرة ودمشق، ومعهما كل الأقاليم وصولًا للحجاز واليمن.
قلعة حلب، التى تعتبر أقدم القلاع الباقية من العصور الوسطى، شاهدة على محطات القوة هذه، منذ فتحها خالد بن الوليد.. هى شاهدة أيضًا على نكبات ثقيلة للشام.. وللمنطقة كلها، كانت أبرزها نكبتين حدثتا للقلعة ولسكان حلب كلها على يد المغول، الأولى حين حاول هولاكو الانتقام بعد هزيمة جيشه فى معركة عين جالوت، والثانية بسبب الغزو المغولى الجديد بقيادة تيمورلنك.. وها هى الآن شاهدة على نكبة جديدة.
هذه المنطقة الغنية بتاريخها وكنوزها وعقولها دائمًا معرضة للتدخلات والصراعات، وشاء حظها هذه المرة أن تكون ساحة لمواجهات بين متطرفين إسلاميين يتحركون بتوجيهات خارجية، ونظام قمعى ودموى له سوابق فى قتل عشرات الآلاف من شعبه، لكى يحافظ على بقائه فى كرسى الحكم.
أنا لا يهمنى سوى الشعب الشقيق واستقراره.. وأتمنى أن تحشد مصر موقفًا عربيًا موحدًا وقويًا تجاه الحفاظ على وحدة سوريا ووقف الحرب بشكل عاجل.