مصر وإيران.. والخطوة المقبلة
توقفت عند دلالة جولة وزير خارجية إيران «عباس عراقجى» الخاطفة لقلب القاهرة. هو ومرافقوه ومجموعة صغيرة من الصحفيين المهتمين بالملف الإيرانى القريبين من السفير محمد سلطانى فرد، رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية فى القاهرة، حرصوا على تناول وجبة كشرى وأرز باللبن فى أحد المحلات الشهيرة.
إسرائيل ضربت أهدافًا فى عمق إيران أكثر من مرة، وهناك خطط مسربة فى الولايات المتحدة حول ضربة شاملة وقوية تجهزها إسرائيل تجاه إيران قد تطول منشآتها النووية أو حقول البترول الكبرى، علاوة على الحرب الدائرة تجاه الأذرع الإيرانية وقيادات الجماعات الممولة منها فى لبنان وفى اليمن.. وأوقعت إسرائيل خسائر فادحة بينهم.. وسط كل هذه المشاهد القاتمة يجد وزير خارجية إيران لديه فسحة، ويذهب لتناول وجبة غذاء شعبية.. فى عاصمة هادئة وآمنة وتعيش بشكل طبيعى، وسط كل هذه الفوضى فى الإقليم كله. خطف هذا المشهد الإيجابى الأضواء من الزيارة كلها.
و«عراقجى» وزير مشهود له بالكفاءة والذكاء، وهو ابن المؤسسة الدبلوماسية الإيرانية منذ تخرجه وليس وافدًا على الوزارة مثل وزراء سبقوه للمنصب. وهو يُعلى من شأن قضيتين رئيسيتين؛ الأولى، العمل على رفع العقوبات الدولية، والثانية، تنشيط العلاقات بين طهران ومحيطها الإقليمى. لا توجد دولة أكثر من إيران صنعت لنفسها أزمات ومشاكل مع غالبية الجيران.
ومصر قطعت علاقاتها مع إيران عقب قيام ثورة الخمينى عام ١٩٧٩.. واستضافت القاهرة الشاه المخلوع «محمد رضا بهلوى».. وأعقبت ذلك أحداث سياسية درامية.. وإرهابية، ربما أبرزها اغتيال الرئيس السادات والاحتفاء الأدبى من طهران بقتلته، ثم تقربها بعد ذلك من قادة الجماعات المتطرفة المصريين وغير المصريين. ومن هناك، ومن أفغانستان المجاورة، خططوا لتنفيذ عمليات إرهابية فى عدة مواقع.
بعد ذلك بفترة طويلة، جرت محاولات للتقريب بين مصر وإيران. فى إحدى هذه المرات رأت القاهرة أن الأمور لم تصل لحد افتتاح السفارتين بشكل تام. ولكن مؤقتًا من الممكن افتتاح مكتب تمثيل يترأسه قائم بالأعمال، أى أقل من درجة سفير. لكن جرت العادة على غير ذلك، إذ كانت طهران تتخير للقاهرة واحدًا من أكثر دبلوماسييها خبرة وكفاءة، وكذلك كانت تفعل القاهرة. ولقد تعاملت مع بعض الدبلوماسيين الإيرانيين.. ووجدت أنهم واجهة جيدة لبلدهم ومثقفون للغاية.
وتجدر الإشارة إلى أن الأسباب المهمة التى عملت على تعطيل خطوة استعادة العلاقات الكاملة بين مصر وإيران لم تكن متعلقة بوجود خلافات ثنائية عميقة لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها. هناك دول فيما بينها صراعات حدودية وحروب مباشرة، ورغم ذلك تحافظ على بقاء العلاقات الدبلوماسية فيما بينها. مصر، وعلى مدار حكم مبارك، وضعت العلاقة مع طهران والتقارب معها ضمن أجندة دبلوماسية إقليمية ضخمة، عنوانها الرئيسى «مصالح دول الخليج وعدم إغضابها بأى طريقة». كانت العلاقة المتوترة بين إيران والعراق أولًا، ثم الصراع المستمر مع الإمارات بسبب الجزر الثلاث المتنازع عليها، ورغبة إيران الدائمة فى التدخل فى مقدرات عدة دول عربية، سببًا فى تعطيل عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة.
وخلال الشهور المعدودة التى تولى فيها الإخوان الحكم، حدث نوع من التقارب السياسى والسياحى، كما جرت محاولات سرية لإقامة علاقات اقتصادية، وبالتحديد فى مجال البترول وتصديره، بالمخالفة للقرارات الدولية. لكن الأجهزة السيادية أفشلت هذه المخططات بحزم.
هذه المرة، لا أرى أى معوقات لاستئناف العلاقات مع تحديد نقاط الخلاف وتحجيمها. الدول الكبرى تفعل ذلك فى جلسات الحوار الاستراتيجى. هناك ملامح مشتركة فى منهج عباس عراقجى وبدر عبدالعاطى. وبالمناسبة، فالاثنان سبق وعملا متحدثين رسميين للخارجية فى البلدين.
وفى تقييمى، فإن مصر يمكنها فى هذه المرحلة أن تعمل على تهدئة الجموح الإيرانى وتقريب طهران أكثر من بقية العواصم العربية التى تتوجس من ممارسات طهران. ليس فى صالحنا وجود أزمات دائمة، أو حرب إقليمية كبيرة فى المنطقة. المستفيد الرئيسى هو إسرائيل ونهجها، كما أن مثل هذه المشاكل تصرف الأنظار عن القضايا الأساسية التى يجتمع عليها الرأى العام العربى والرأى العام الإيرانى. إثارة الخلافات هى منهج غربى واستعمارى قديم، وقد فقد حجته بخروج القوى الأوروبية التقليدية، لكن عاد واستقر بتخطيط أمريكى خالص. هذه المرة، أكثر المستفيدين من هذه التوترات واستمرار الأزمات هو شركات السلاح الغربية.
لقد استضافت القاهرة الوزير الإيرانى وأعقبت ذلك تسريبات متواترة ثم تأكيدات شبه رسمية على انعقاد قمة بين الرئيس السيسى ونظيره الإيرانى «مسعود بزشكيان» على هامش اجتماع تجمع «بريكس» فى روسيا الشهر الحالى، وفى نفس الأسبوع استضافت مصر ولى العهد السعودى محمد بن سلمان. وهى زيارة وصفت بأنها الأهم سياسيًا واقتصاديًا. أنظر إلى الحدثين، ومواقف أخرى، برؤية شاملة، وأصل لنتيجة مفادها بأن مصر مثلما هى بلد الوسطية الدينية واستوعبت كل الديانات والمذاهب وعملت على ترويضها.. فهى أيضًا بلد الوسطية السياسية.