هزيمة الغرب.. نبوءة تؤكدها الديموجرافيا (1)
يبدو أن انهيار الحضارات كان نمطًا طبيعيًا ومتكررًا فى تطور الثقافات عبر التاريخ.. فغالبًا ما كانت تتبوأ مرحلة الانهيار والضعف مكانتها بعد مرحلة الازدهار.. وأقرب مثال على ذلك، هو ما حدث لإمبراطورية مصر القديمة، والإمبراطورية الرومانية، وحضارة المايا، التى ظهرت فى منطقة أمريكا الوسطى والجنوبية، وأسرة تشينج الصينية، التى شهدت فترات من الازدهار ثم تلاها الانهيار.. ويبدو أن هذا هو المسار الحتمى لأى حضارة.. أما فى الوقت الحاضر، فقد تواجه الحضارة الغربية المصير ذاته، نظرًا إلى وجود علامات واضحة على أزمات متنوعة، مثل اتساع فجوة التفاوتات الاقتصادية والانقسامات السياسية والصراعات العنيفة، فضلًا عن الكوارث البيئية.. ويَعتَبِر بعض المتابعين أن ما يحدث مؤشر على «أزمات عالمية متعددة»، تُشكِّل تهديدًا خطيرًا، ربما يكون وجوديًّا للمجتمعات المعاصرة.. لكن كيف وصلنا لمرحلة التنبؤ هذه، وهل هناك سوابق فى التاريخ، على أن ما نتنبأ به، يمكن أن يُصبح حقيقة؟.
فى عام 1976، وفى ذروة الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفيتى قوة عظمى، تُنافس الولايات المتحدة فى كل المجالات، تنشر جيوشها فى كل الكتلة الشرقية، ويمتد تأثير سياستها إلى أغلب دول العالم، الذى كان يوصف حينها بعالم القطبين.. لكن فى خريف نفس العام، نشر باحث فرنسى مغمور فى مجال الدراسات الديموجرافية التاريخية وهو علم دراسة خصائص السكان على مدى زمنى طويل لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين، كتابًا سماه، «السقوط الأخير» The last fall.. هذا الطالب كان هو إيمانويل تود، وكان على وشك أن يُناقش بحثه لنيل درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج فى بريطانيا.. بدت توقعات تود مُضحكة، أو شديدة الغرابة فى أحسن الأحوال، بالنظر إلى القوة التى ظهر عليها الاتحاد السوفيتى حينها.. لكن تمر السنون، وتتحقق نبوءة تود بدقة مذهلة.. فبدلًا من دراسة أوضاع البلاد باستخدام أدوات التحليل السياسى التقليدية، استطاع تود من خلال الدراسات الديموجرافية، أن يُشرِّح المجتمع السوفيتى، وأن يصل إلى استنتاجات، ثبتت صحتها خلال ثلاثة عشر عامًا، وجعلت منه أحد أبرز فلاسفة وعلماء عصره.
والديموجرافيا، فرع من علم الاجتماع والجغرافيا البشرية، يقوم على دراسة علمية لخصائص السكان، المتمثلة فى الحجم والتوزيع والكثافة والتركيب والأعراق ومكونات النمو، مثل معدلات المواليد والوفيات والهجرة، ونسب الأمراض، والظروف الاقتصادية والاجتماعية، ومتوسط الأعمار والجنس، ومستوى الدخل، وغير ذلك.. وفى الدراسات الديموجرافية، يستخدم الباحثون، مثل تود، أدوات رياضية وإحصائية ومعادلات جبرية، يمكن من خلالها توقُّع مستقبل الشعوب، بالنظر إلى حاضرها وماضيها.. ولهذا السبب تحديدًا، يعتبر إيمانويل تود، أن الديموجرافيا هو الفرع الوحيد من بين العلوم الاجتماعية الذى يمكن اعتباره علمًا بالتعريف.. اليوم، يعود تود، الذى أصبح مؤرخًا مرموقًا وعالم أنثروبولوجيا واجتماع طبَّقت شهرته الآفاق، بنظرية أكثر إثارة للجدل، وضعها فى كتاب عنوانه، «هزيمة الغرب» Defeat of the West!.
سمح صِدق نبوءة تود الأولى للرجل بأن يكتسب قدرًا من النجومية فى العالم البحثى، لكنه ظل موضعًا لإثارة الجدل.. فتنبؤاته وتحليلاته غالبًا ما تكون صادمة لجمهور القراء فى فرنسا والغرب، وآخر تلك النبوءات، هى أن هزيمة الغرب أصبحت وشيكة.. وللعلم، فإن تود مُثقف غير تقليدى إطلاقًا، وآراؤه غير تقليدية أيضًا.. فيمكن أن يقرأ له باحثٌ رأيًا فى مسألة ويظن أنه من أقصى اليسار، ثم يقرأ له فى صفحة لاحقة تحليلًا لظاهرة أخرى، فيظن أنه ينتمى لا محالة لأقصى اليمين، وهذا الأمر هو ما جعله دائمًا موضع اتهامات متعددة.. فمن ناحية، هو المفكر الذى يُهاجم النيوليبرالية والعولمة والسياسات الاقتصادية التى تُعمِق التفاوت الطبقى، بينما يدعم سياسات دولة الرفاه والتدخل الاقتصادى للدولة، من أجل إعادة التوزيع وضمان أساسيات العدالة الاجتماعية.. وهو المُنتقِد الشهير للإمبريالية الأمريكية، بل وسياسات الاتحاد الأوروبى الاقتصادية.. وهو الرجل الذى وقف بعد أحداث «شارلى إيبدو» فى فرنسا، عن الرسوم المُسيئة للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، ليكتب وينتقد بجرأة التطرف العلمانى الفرنسى، وهى كلها أمور قد تجعله محسوبًا على اليسار.
لكن على جانب آخر، يتمسك إيمانويل تود بالمحافظة على التقاليد الثقافية والدينية، وقد أفرد مساحات كبيرة من كتاباته، لتوضيح كيف يُؤثر التخلى عن القيم الدينية والانصياع التام، على سبيل المثال، لأيديولوجيا الهويات الجنسية بشكل سلبى، فى مستقبل الحضارة الغربية، وكيف يمكن أن ينهار الغرب بانهيار البروتستانتية التى قامت عليها حضارته.. بل ويجد أن ازدياد أعداد اليهود والكاثوليك فى صدارة المشهد السياسى فى الولايات المتحدة يؤشر إلى اضمحلال ما.. وهى كلها آراء يمكن أن يضع من خلالها القارئُ إيمانويل تود، فى خانة المثقف اليمينى، إذا ما قرأها بمعزل عن سياقها.. لكن لنفهم ذلك، ينبغى أن نتعرّف أكثر على هذا الرجل.
فإيمانويل تود الذى وُلِد لأسرة ذات رأسمال ثقافى كبير فى ضواحى باريس عام 1951، تخرَّج فى معهد باريس للدراسات السياسية، وحصل على درجة الدكتوراه فى التاريخ من جامعة كامبريدج البريطانية.. ولعل خلفيته المتنوعة تلك، هى التى تُفسِر استخدامه مناهج متعددة المشارب لتفسير الظواهر التى يدرسها.. فهو يستخدم الاقتصاد والبيانات الديموجرافية المُعمَقة كثيرًا فى تحليله، إضافة إلى الأدوات البحثية الخاصة بعلم الاجتماع والعلوم السياسية.. ويعطى تود الدين اهتمامًا كبيرًا فى تناوله للظواهر.. وهو مؤرخ ينتمى إلى ما يُعرف بمدرسة «المدى الطويل»، بمعنى أنه لا يدرس الظواهر فى صورها الضيقة وتفاصيلها الدقيقة المباشرة، وإنما يدرس الحقب التاريخية والظواهر الممتدة.
وكتاب «هزيمة الغرب» Defeat of the West، الذى صدر بداية العام الجارى، يمكن اعتباره من أهم أعمال تود.. وعلى الرغم من أنه لم يُترجم بعدُ، ولو إلى اللغة الإنجليزية، فإنه أثار الكثير من الجدل فى العالم الغربى، وتناولته الصحف والمنصات المختلفة، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى شرق أوروبا.. والسبب، ليس فقط أن تنبؤات تود تحققت بالفعل فى السابق، ولكن أيضًا لتوقيت الكتاب.. فبينما يحارب الغرب فى أوكرانيا، ويساند إسرائيل فى حربها الإبادية ضد الشعب الفلسطينى، يأتى تود ويقول للغربيين، إنهم فى طريقهم إلى الهزيمة.. ويبين لهم، من خلال مؤشرات متعددة وبيانات هائلة، أنهم على شفا الانهيار.. ويقول تود، إنه حاول فى هذا الكتاب، أن يتحرَّر تمامًا من الخوف من الأحكام الأخلاقية، وأن يقرأ المشهد بشكل علمى غير مُؤدلج.
●●●
قبل الدخول إلى أطروحته الأساسية، من المهم أن نُلقى نظرة واسعة على آراء تود، التى شكَّلت منظاره المستقل المثير للجدل فى العالم.. وعلى إحدى الأفكار الهامة التى شكلت تفرده، وهى نظرته إلى ملفات السياسة الدولية، بعيدًا عن الرواية الغربية الكُلية.. على سبيل المثال، نبه إيمانويل تود منذ تسعينيات القرن الماضى إلى أن ظُلم الغرب للفلسطينيين وتجاهله لمحنتهم لا بد أن يتم تقويمه، وأنه لا يمكن أن يعيش الغرب على ذكريات الحرب العالمية الثانية ألف عام.. فهذا العيش على الذكرى، هو ما يجعل الغرب مُتعاميًا عن الظُلم الواقع على الفلسطينيين، ويجعله مُساندًا لجيش الاحتلال على طول الخط.. هذه الرؤية للملف الفلسطينى، لم ولن تُمكِّن أوروبا حسب وجهة نظر تود من أن تصبح لها كلمة ذات وزن، لحل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى.. كذلك، يصل تود إلى درجة القول بأن إيران ينبغى أن تمتلك سلاحًا نوويًّا؛ لأن هذا هو الحل الوحيد لكى يسود السلام فى المنطقة، ويتوقف جيش الاحتلال الإسرائيلى عن طغيانه.. فبالنسبة لتود، فإن امتلاك الأسلحة النووية بالتساوى هو السبيل الأمثل للسلام، وليس أن تمتلكه بعض الدول فقط.. فهو يرى مثلًا، أن امتلاك الاتحاد السوفيتى لأسلحة نووية، هو ما منع الولايات المتحدة الأمريكية من استخدام أسلحتها ضد الأراضى السوفيتية، عكس ما فعلت مع اليابان فى الحرب العالمية الثانية.. وكذلك إذا امتلكت إيران القنبلة النووية، فستتوقف إسرائيل عن القتل والتشريد دون حساب.
على جانب آخر، وبعيدًا عن آراء تود التى خالفت الرواية الغربية السائدة عادةً فى السياسة الدولية، فإن أهم مرتكز فى فلسفته، هو الأدوات التى يعتمدها فى تحليله وتنبؤاته.. فبينما يُركز المحللون عادةً على البِنى الاقتصادية والثقافية ليبنوا تحليلاتهم وتوقعاتهم ورؤاهم التاريخية، يتجه تود إلى وحدات أصغر فى الصورة ليحللها، مثل الهياكل الأسرية فى المجتمع.. هل هى ممتدة أم طائفية؟، وهل ما زال الناس مُترابطين أسريًّا فى مجتمع ما أم لا؟، وبأية صورة؟.. وبعد جمع تلك البيانات الصغيرة، يربطها تود بشكل الأنظمة الذى يمكن أن تستقر فى هذا المجتمع، سواء أنظمة استبدادية أو ديمقراطية ليبرالية.. فإذا ما تزايدت أعداد الأسر الطائفية فى مجتمع ما، فربما سيُهدد ذلك نظامًا استبداديًّا على المدى الطويل.
وبشكل عام، فإن ما يُميز تحليلات تود، هو استخدامه الواسع لعلم السكان والبيانات الديموجرافية ومعدلات المواليد ومستويات التعليم، ليتوقع التغييرات السياسية والاجتماعية التى يمكن أن تشهدها منطقة ما.. وحين توقع تود عام 1976، فى كتابه «السقوط الأخير» The last fall، انهيار الاتحاد السوفيتى قريبًا، قام بذلك، انطلاقًا من دراسة بيانات لا تمتّ إلى السياسة بصلة مباشرة، مثل إحصائيات معدلات وفيات الأطفال الرُضّع فى الاتحاد السوفيتى، فضلًا عن انخفاض نسبة المواليد.. ومع أنه فى البداية، لم تأخذ طريقة تود فى التحليل والتأريخ اهتمامًا يُذكر، لكن حين حدث ما حدث وسقط الاتحاد السوفيتى، بدأت طريقته، التى تعتمد أساسًا على البيانات السكانية، تنال اهتمامًا كبيرًا.
وربما يكون أكثر تحليلات المفكر الفرنسى إثارة للجدل، هو تحليله للمَسِيرات الفرنسية، التى انطلقت للتنديد بالهجوم المسلح على صحيفة «شارلى إيبدو»، بعد نشر المجلة رسومًا مسيئة للنبى محمد، صلى الله عليه وسلم.. إذ بعد أحداث شارلى إيبدو، انطلقت مَسِيرات فى فرنسا للتنديد بما حدث، وللتأكيد على إيمان فرنسا بما يصفونه «حرية الاعتقاد وبقيم التنوير، وبوحدة الشعب الفرنسى أمام الإرهاب الدينى»، وقد نُظر إلى تلك المَسِيرات التى انطلقت فى يوم الحادى عشر من يناير 2015، باعتبارها مُقدسة ورمزًا وطنيًّا فى حد ذاتها، وأصبحت كلمة «روح الحادى عشر من يناير» تعبيرًا يستخدمه الكُتاب والمفكرون فى فرنسا، لوصف روح فرنسا التى لا تُقهر، والتى تجلَّت فى هذا اليوم.. لكن تود أتى فجأة، لينسف كل ذلك ويقول، إن شارلى إيبدو مجلة سيئة، وإن هذه المَسِيرات نضَحَت بالفاشية، وإنها مَسِيرات لا تُثير الإعجاب، قادها «زومبى الكاثوليك» كما وصفهم.. فهى انطلقت من أكثر أحياء فرنسا كاثوليكيةً وأكثرها كراهيةً للإسلام، وهى تحديدًا مناطق الغرب الفرنسى وليون، التى لا يُمارس الناس الذين وصفهم بالزومبى الكاثوليك فيها الكاثوليكية، لكنهم مازالوا مُشبَعين بالأفكار الكاثوليكية اجتماعيًّا وأسريًّا، ومحافظين على نفس الهياكل الهرمية الكاثوليكية، وأبعد ما يكونون عن العلمانية.. وهم بحسب تعبيره، مجموعة من «المُنحرفين المُسنّين الذين تمت تربيتهم اجتماعيًّا على الدين الذى تخلوا عنه»، بحسب تعبيره.
بالنسبة لتود، فإن المظاهرات لم تكن تدافع فقط عن حرية الاعتقاد والتعبير، وهى الحرية التى يتفق معها بالطبع، بل كانت أيضًا مظاهرات لا مكان فيها لهؤلاء الذين يرفضون «العمل الإرهابى»، لكنهم مع ذلك يعترضون على الرسوم المستفزّة ولا يُشجعونها، ويرون أنها كانت حمقاء، على حدِّ تعبيره.. كانت المَسِيرات من وجهة نظره، فرصة «لاستعراض القوة والبصق على الأقلية المُستضعَفة»، وهى مسلمو فرنسا، الذين يمثلهم أساسًا أبناء المهاجرين والعمال.. كما كانت استعراضًا لكراهية تلك الأقلية، والذى لم يحضره أبناء الطبقة العاملة، وإنما فقط الكاثوليك.. تسبَّب رأى إيمانويل تود حينها، فى موجة عاصفة من الانتقادات، ووصفته الصحافة الفرنسية بأنه «مُثقّف مُزعج»، و«مُجدّف ضد الحادى عشر من يناير»، و«سخيف وكاذب» و«مُتواطئ مع الإرهابيين».. وقد عقّب تود حينذاك، بأنه من المفارقة، أن الداعين إلى تلك المَسِيرات قد انطلقوا للدفاع عن حرية التعبير، وبعد ذلك أرادوا إسكات كل من اختلف معهم فى الرأى، وقال أيضًا، إن السخرية من الدين فى فرنسا لم تعد حقًّا فقط، بل أصبحت واجبًا؛ إذ يتم دفع المسلمين على وسائل الإعلام إلى القول إنهم مؤيدون للرسوم المسيئة لنبيهم، حتى يُظهِروا أنهم فرنسيون حقًّا.
●●●
بعد سنوات من تنبُّئِه الناجح بانهيار الاتحاد السوفيتى، عاد تود ليستخدم نفس الأدوات الإحصائية بشكل أساسى، ليقدم نبوءة جديدة.. ونبوءتُه هذه المرة هى هزيمة الغرب، فى الكتاب الذى صدر عن دار جاليمار للنشر بداية هذا العام، ومن خلال هذا الكتاب ومادته العلمية الوفيرة، يُبرهن تود على العجز الصناعى فى الولايات المتحدة الأمريكية وانحدار التعليم بها منذ ستينيات القرن الماضى، ويُبرهن أيضًا على السقوط الروحانى والدينى وتفكك الروابط العائلية، وتفضيل دول من العالم لنموذج الدول المُعادية للغرب.. ومن خلال هذه الأشياء، يرسم صورة قاتمة لمستقبل الغرب.. تمامًا كما نظر فى الماضى إلى الإحصاءات السكانية الصغيرة التى توقع من خلالها أن الفساد قد استشرى فى الاتحاد السوفيتى إلى حدٍ يهدد بانهياره، فإنه يعود الآن وينظر إلى نفس الإحصاءات فى روسيا، فيجد الأمر قد تغير تمامًا.. ففى حكم الرئيس فلاديمير بوتين، انخفض معدل الوفيات نتيجة إدمان الكحول فى روسيا من 25.6 فى كل مائة ألف نسمة إلى 8.4 فقط، وانخفضت حالات الانتحار من 56,934 حالة إلى 20,278 حالة، وانخفضت جرائم القتل من 41,090 جريمة إلى 9,048 جريمة قتل، كما انخفض معدل الوفيات السنوية بين الرضع من تسعة عشر من كل ألف طفل عام 2000 إلى 4.4 عام 2020.. وأهمية هذا الرقم بالنسبة لتود، أنه أقل من المعدل الأمريكى البالغ 5.4.. بالنسبة لتود، فإن مؤشرات مثل تلك، أهم بكثير من المؤشرات الغربية السيّئة السمعة، حول الفساد وما إلى ذلك، التى يرى أنها مفتقرة إلى المعايير الموضوعية.. فبينما تُظهِر تلك المؤشرات الغربية أن الغرب متفوق بفارق كبير على خصومه، يُظهِر الفرق بين عدد وفيات الأطفال الرضع فى روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر فسادًا من روسيا.
يُبين تود الذى يتهمه الكثيرون فى الغرب حاليًّا، بأنه صار بوقًا لتلميع روسيا بالأرقام، كيف تقدَّمت روسيا وتخلَّفت الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد صارت الولايات المتحدة تنتج من السيارات ومن القمح، أقل مما كانت تنتجه فى ثمانينيات القرن الماضى، بل إنها أصبحت تُخرِّج مهندسين أقل ممن تُخرِّجهم روسيا، وهذا ليس قياسًا بعدد السكان فحسب، بل وفق الأرقام المطلقة.. هذا فضلًا عن النقص الحاد فى شهادات الدكتوراه التى حصل عليها الأمريكيون فى مجال الهندسة فى العقود الأخيرة.. وبينما يتجه الروس إلى الوظائف التى تتقدم بها الأمم، يتجه الأمريكيون أكثر فأكثر، إلى وظائف قطاع الخدمات والقانون والتمويل، وهى الوظائف التى لا تُوجِد القيمة وإنما تنقلها فقط داخل الاقتصاد، وقد تقضى عليها فى بعض الأحيان.. وبشكل عام، يرى تود أنه بينما كانت الحكومات الغربية المُنتخبة تُركز دائمًا على تحقيق أهداف قصيرة المدى، توفر لها إعادة انتخابها مرّة قادمة، كانت حكومات الدول المنافسة للغرب تتمتع بخطط أطول مدى، جعلتها تحقق تقدمًا ملحوظًا فى بلادها، وعلى الصعيد الدولى.
من وجهة نظر تود، ينبغى لنا أن نتأمل بعمق حقيقة أن روسيا استطاعت أن تصمُد فى وجه العقوبات الاقتصادية بعد الحرب على أوكرانيا، دون أن تركع أو تتأثر بشكل حاد؛ ذلك لأن روسيا استطاعت أن تبنى دولتها المستقلة، وقد استعدت لاستقلالها الاقتصادى والتكنولوجى منذ سنوات.. والمُدهش هنا وفقًا لتود، أن الغرب لم يكن قادرًا على تأمين احتياجات أوكرانيا من القذائف فى الحرب، على الرغم من أنه قبل الحرب مباشرة، كان الناتج المحلى الإجمالى لروسيا وبيلاروسيا لا يمثل إلا 3.3%، من الناتج المحلى الإجمالى الذى يتمتع به الغرب.. لكن رغم ذلك، استطاعت روسيا أن تُنتج أسلحة أكثر من العالم الغربى.. ومن هنا، يخلُص تود إلى أن علم الاقتصاد السياسى الغربى الزائف قد انكشف فى تلك الحرب، وأن مفهوم الناتج المحلى الإجمالى لم يعُد قادرًا على تفسير الحقيقة.. كذلك، يخلُص تود، إلى أن الوضع المتعلق بالاقتصاد والتعليم والفساد، يشير إلى أن الغرب على شفا حفرة من الهزيمة أمام خصومه، كما أن تود يُولى مساحة أخرى اهتمامًا كبيرًا، ليستخلص من خلالها اقتراب هزيمة الغرب، وهى مساحة العلاقات الأسرية والحياة الروحية والدين.. يرى تود، كما رأى الكثير من الفلاسفة من قبل، أن الإصلاح الدينى البروتستانتى كان العمود الأساسى، الذى بنى عليه الغرب نهضته التعليمية والاقتصادية، إذ أعلَت البروتستانتية من قيم العمل والتعليم.. والآن يلاحظ تود أمرين أساسيين..
أولهما، أن النخبة البروتستانتية التى بُنيَت على أكتافها سابقًا الحضارة الغربية من خلال قيم العمل والعلم، تحولت الآن لتصبح عصابات حاكمة فى العواصم الغربية، مُشبَّعة تمامًا بأفكار النيوليبرالية والجشع، بل إنها قد فقدت وجودها فى واجهة الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية.. على سبيل المثال، لأول مرة فى الحكومة الأمريكية الأخيرة، حكومة جو بايدن، لم يعد هناك وجه بروتستانتى أبيض، بل صار اليهود يسودون الوظائف الحكومية العليا، وهو يؤكد حين يشير إلى تلك الملحوظة، أنه هو نفسه ينتمى لسلالة يهودية، لكنه يحاول أن يوضح كيف يؤثر الأمر فى السياسة.. والآخر، هو ما يسميه تود، الوصول إلى الصفر الدينى فى الغرب، بقطبيه الكاثوليكى والبروتستانتى؛ مما أنتج فوضى فى القيم والمعايير وتغييب معنى الحياة.. فلم تعد المجتمعات الغربية تُعانى فقط من الافتقار إلى الروحانية والقيم والمعانى، بل وصل فيها الاقتناع الدينى إلى الصفر، وهو ما جعل القيم الغربية غير جذابة لبقية العالم بعكس الماضى؛ إذ صار الغرب عنوانًا للعدمية، وأصبح نموذج الأسرة الغربية بعد ما شهد نظامها القائم على الأب تدميرًا كبيرًا فى العقد الأخير نموذجًا يهدد الحياة الاجتماعية، فضلًا عن كونه لا يجذب الاحترام فى عيون العالم.
هل كان تود هو الوحيد القائل بهزيمة الغرب؟.. الواقع يقول لا، إذ خرج معه مَنْ يؤكد ذلك، لكن بتصرف.. وهذا حديث المقال التالى.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.