أحلام المياه الجوفية بالصحراء
التقليب والتدقيق فى الأرشيف الصحفى يكشف لنا اتجاه تقدمنا.. وهل تغيرت قناعاتنا الصحفية والعلمية فى الوقت الحالى عما كانت عليه من قبل أم لا؟.. بالصدفة، عثرت على هذا المانشيت لجريدة الأهرام عدد ٢ سبتمبر ١٩٧٧:
اكتشاف أكبر خزان فى العالم للمياه الجوفية فى الصحراء الغربية
نتائج بالغة الأهمية تكشفها دراسة كلف بها الرئيس قطاع البترول
٦٨٦ مليون متر مكعب مياه يمكن استغلالها سنويًا من خزان جنوب القطارة
آثار واسعة على اقتصاديات مصر يحققها الكشف الكبير
كلما ظهرت مشاكل مياه ثقيلة فى مصر، تنشط الأحلام حول وجود أنهار من المياه الجوفية تجرى وتتدفق تحت صحراء مصر.. هذه الأحلام تستهدف الصحراء الغربية أكثر من الصحراء الشرقية.
ومع تفاقم أزمة سد النهضة ونية إثيوبيا حجز نسبة كبيرة من مياه النيل الأزرق، مع كل موسم فيضان، ورفض أديس أبابا الاستماع لصوت العقل، والتنصل للقانون الدولى واتفاق إعلان المبادئ الذى سبق ووقعته مصر والسودان وإثيوبيا، يهرب العقل الجمعى فى مصر إلى حلول غير تقليدية تتجاوز نهر النيل، إلى مشروعات، بعضها تختلط الأحلام فيه بالأوهام، مثل الحصول على حصة من المياه عن طريق أنابيب عملاقة من نهر الكونغو.. ولكن المستقر حاليًا، هو استغلال الأنهار الجوفية التى تتدفق فى الصحراء الغربية!
الغريب أن بعض مدعى العلم يتحدثون فى القضية دون معلومات دقيقة، ونشطت الأوهام حول نفس الموضوع خلال الأسابيع الماضية، مع السيول التى شهدها السودان وبعض الدول الأخرى من حولنا. وحينها تأثر جنوب مصر وصولًا لأسوان بهذا الطقس المتقلب، وشهدت المنطقة أمطارًا غزيرة وتدفقت عدة أودية بالصحراء وفاضت بالمياه.
ونتيجة لهذا الوضع، نشطت أحلام زيادة المخزون الجوفى للمياه، وظهرت إلى جوار ذلك، شائعات أخرى، منها أن السيول قد كشفت عن تلال من الذهب كانت مطمورة تحت التربة ثم كشفها تدفق المياه من فوقها! مثل هذه الأحلام عمرها قصير جدًا ومردود عليها علميًا، وينبغى تفنيدها بسرعة. أمل مصر فى قضايا المياه وتأمين احتياجات الشعب، ينبغى أن يُبنى على قواعد سليمة ومنطقية. وأولى هذه القواعد أن نغير من تعاملنا مع أديس أبابا ومن يشجعها، سرًا وعلنًا، وإجبارها على اتخاذ مواقف متشددة فى قضية مياه نهر النيل.. حتى لو وصل الأمر إلى حد تهديدها وترويعها عسكريًا.. وإقامة تحالفات واتفاقات واسعة مع دول الجوار. وأعتقد أن الأسبوعين الأخيرين قد شهدا إجراءين مهمين، الأول تمثل فى توقيع البروتوكول الأمنى مع الصومال وتدريب الجيش الوطنى هناك وإمداده بأسلحة حديثة، والثانى تمثل فى لجوء مصر لمجلس الأمن احتجاجًا على استكمال بناء السد وحجز كميات كبيرة من المياه، ورفض الاتفاق مع دولتى المصب.
هذا هو معالم التحرك الإيجابى، دبلوماسيًا وميدانيًا، الذى ينبغى أن نحافظ عليه وندعمه خلال الفترة المقبلة. لقد راهن كثيرون، ومن بينهم رئيس وزراء إثيوبيا أبى أحمد، على أن قبضة مصر قد وهنت وأنها منشغلة أكثر بما يحدث فى غزة واحتلال إسرائيل القطاع، وبحدودها الغربية. وأن غزة وليبيا قد سرقتا الاهتمام من قضية سد النهضة.. وقد اتضح أن هذه الفرضيات غير صحيحة تمامًا. أيضًا، ينبغى أن تذهب أحلامنا، فيما يتعلق بزيادة حصتنا من المياه، إلى التقدم العلمى فى هذا المجال. لقد تقدمت تكنولوجيا تحلية مياه البحر. المنتجعات السياحية فى البحر الأحمر وجنوب سيناء كانت سباقة فى هذا المجال، وتبعتها شركات وطنية أخرى، لكن ينبغى تسريع هذا المجال ودعمه أكثر من ذلك. أتمنى أن تكون المعلومات دقيقة، فيما يتعلق بأن الطاقة الكهربائية المولدة من محطات المفاعلات النووية بالضبعة سيتم استخدامها بالأساس لتحلية مياه البحر.
وخطت الحكومة والشركات الوطنية الكبرى خطوات عملاقة فى اتجاه إعادة استخدام مياه الصرف الزراعى بطريقة آمنة دون إهدار للمياه، وإعادة توجيهها ونقلها للأماكن الزراعية بمشروع «الدلتا الجديدة». وهو مشروع عملاق فى الصحراء الغربية يستهدف زراعة ٢،٢ مليون فدان.
وأخيرًا، فإننى أؤكد أن أحلام وجود أنهار جوفية عملاقة ومتجددة تحت الصحراء، هى أحلام قديمة جدًا. ولقد وصلت إلى مانشيتات الصحف مثلما وصلت أحلام وجود ثروات بترولية عملاقة فى صحراء مصر، وأننا سنسبق دول الخليج فى إنتاج البترول. ثبت أن المعلومات كانت غير دقيقة، وأنها ظهرت للنور عقب نكسة يونيو ١٩٦٧ بهدف تخدير العقول وصرف الناس إلى قضايا جانبية أو منحهم أملًا للمستقبل. ولقد قرأت مقالات لبعض محررى البترول المخضرمين يعتذرون عن مشاركتهم، دون قصد، فى نشر مثل هذه الأحلام الزائفة والكاذبة. هذا عن البترول.. لكن أحلام المياه الجوفية ونهر الصحراء الغربية المتدفق، ما زالت تتكرر وتتضخم، ولم يعتذر أحد عن عدم دقتها!