رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لغة نجيب محفوظ

منذ عدة أيام أثار د. «حسين حمودة» موضوع «اللغة عند نجيب محفوظ» فى مقال بجريدة «اليوم السابع»، من زاوية ما إن كانت شخصيات محفوظ تتحدث لغة واحدة، أم أن لغته كانت تتلون مع اختلاف الشخصيات، وما إن كان هناك مستوى لغوى واحد ثابت ودائم فى كل أعمال الكاتب مع كل شخصيات نصوصه؟

وانتهى «حمودة» إلى أن لغات الشخصيات تتعدد مستوياتها وتتباين، من شخصية لأخرى، واستشهد بنماذج من روايات محفوظ مثل قوله: «قُم بنا»، و«يا ألف نهار أبيض»، وعبارات مثل: «إنتَ صاحب بيت»، و«لا مؤاخذة»، و«فى عرضك»، ثم: «بصنعة لطافة»، وأيضًا «رُكبى سابت». وكلها عبارات وتراكيب مشبعة بمفردات وتراكيب العامية. 

جدير بالذكر أن كل تلك المفردات التى استخدمها «محفوظ» هى فصيحة أصلًا، ولكن «محفوظ» جرّها إلى الإشهار عن فصاحتها، وفى ذلك المضمار قال «محفوظ» عن ذلك ذات مرة إنها: «لغة فصحى ترتدى ملاءة لف»، أى مشبعة بروح التراكيب العامية. 

وعامة كان موقف «محفوظ» من العامية واضحًا، فقد رفض الكتابة بها أصلًا، وكان يعدها ظاهرة ناجمة عن عدم انتشار التعليم، ومبدأ تفصيح العامية، أو «الفصحى فى ملاءة لف» يقوم على اكتشاف الفصحى داخل العامية.

وقد سبق «يحيى حقى» الجميع إلى ذلك، وأبدع فيه الكثير، وانظر مثلًا إلى «حقى» حين كتب: «تتباهى القرعاء بشعر بنت أختها»، وهذه العبارة من ناحية فصيحة مائة بالمائة، لكنها مشبعة بروح الاستخدام العامى، أو حين يستخدم «حقى» عبارة أخرى عجيبة مثل: «عقله فسافيسى»، وهى جملة قد تبدو بعيدة عن الفصحى، لكنها سليمة وفصيحة تمامًا، إذ تشير المعاجم إلى أن: «رجل فسفاس» هو رجل شديد الحماقة.

ويكتب «حقى» أيضًا: «حياة فلان سبهللا»، وهى فصيحة من روح العامية، إذ يرد فى المعاجم أنه: «مشى الرجل سبهللا، أى مختالًا يروح ويجىء بلا عمل»! ويكتب: «كلامه فاشوش فى فاشوش»، وسنجد فى المعاجم أن الفاشوش من الأشياء هو ما لا فائدة منه. وهكذا يمد يحيى حقى همزة وصل مبدعة وعبقرية بين اللهجة واللغة لم يسبقه إليها أحد.

وقد اقتصر جهد «توفيق الحكيم» فى اللغة على دعوته إلى لغة مُيسرة، بينما اقتصر جهد «نجيب محفوظ» على تطوير اللغة الأدبية القائمة بالفعل، أى تجنب المهجور منها، بل وظل محفوظ يكتب «النادل» زمنًا طويلًا حتى قرر استخدام كلمة «جرسون».

جدير بالانتباه هنا أن اللغة ليست الأدب، وفى هذا المضمار سنجد خطابات مشبعة بالبلاغة، لكنها ليست الأدب، مثال ذلك خطابات «مصطفى كامل، وسعد زغلول، ومكرم عبيد» صاحب أشهر عبارة بليغة: «نحن مسلمون وطنًا ونصارى دينًا»، وبينما تندرج كل هذه العبارات فى اللغة فإنها ليست أدبًا، أما الأدب فهو لغة، كله لغة، وإذا لم تكن هناك لغة فليس هناك تعبير دقيق، وإذا لم تكن هناك لغة فليس هناك تصوير، ولا حتى بلوغ الحقيقة الأدبية. 

الأدب لغة، لهذا من المهم للغاية أن نفكر فى الحفاظ على اللغة العربية، لأنها ركيزة الثقافة العربية، ولأننا إذا اعتمدنا اللهجات فى الكتابة فسوف نكتب فى مصر وحدها بأربع لهجات: الصعيد، والمدن، والسواحل، وسيناء، ما يعنى أن ندمر وظيفة اللغة الأساسية وهى الحفاظ على الرابطة القومية، ومن هنا كانت محاولات «يحيى حقى، والحكيم، وتيمور، ومحفوظ» لاكتشاف الصلة بين العامية والفصحى وتوثيق الارتباط بينهما.